جميل مطر
لعبنا ونحن أطفال لعبة السؤال والجواب. يسألون السؤال، فنفشل في الإجابة أو نتردد فيعاودون السؤال بصيغة ثانية أقل تعقيداً فنفشل أو نتردد، فيطرحونه مرة أخرى بصيغة مخففة فنفشل في الإجابة أو نتردد، فيجربون مرة أخيرة فنفشل أو نتردد، فيعلنون الفوز متضمناً في استفسار بلهجة ساخرة، «غلب حمارك والا لسه؟».
عشت سنوات أحاول فهم الصلة في هذه اللعبة البريئة في مظهرها العميقة في مدلولها بين الطرف الملّح دائماً في السؤال، وبين الطرف الذي يعجز «حماره» كل مرة عن تقديم الإجابة الصحيحة وفي الوقت المناسب. كنت وأنا صحفي، تحت التدريب الذاتي، كلما ضاقت بي سبل الحصول على إجابات صحيحة أو مقنعة أو على الأقل تشبع فضولي في قضية بعينها أتذكر مبتسماً لعبتنا البريئة في زمن طفولتنا المتعطشة طول الوقت لإجابات صحيحة عن أسئلة لا تنتهي.
علموني وقتها، أقصد وقت التدريب الذاتي، علموني أن «السؤال» يبقى مدى الحياة وفي كل الثقافات جوهر مهنة الصحفي. لكن ليس كل سؤال. سؤال الصحفي كسؤال الطبيب لمريضه، إن لم يحسن الطبيب صياغة سؤاله واختيار الوقت المناسب لتوجيهه، فإنه لن يحصل على إجابة صحيحة، وبالتالي لن يشفى المريض. سمعت من أطباء، ومنهم ابني، أن بعض المرضى يراوغون كما يراوغ بعض العاملين بالسياسة، ومنهم بعض قادتها في تقديم الإجابة الصحيحة. وفي الحالتين تتعقد مهمة الصحفي وتتعطل رسالته وتتعقد مهمة الطبيب وتفشل مهمته.
مقدمة طالت مني بالغصب مني ولكني أفرغت فيها ما في صدور بعض الصحفيين من ضيق وخيبات أمل بسبب عجزهم عن الحصول على إجابات صادقة أو صحيحة لأسئلة «عششت طويلاً» في رؤوسهم، أو لعل الضيق وخيبات الأمل سببها عجز الطرف الآخر هو نفسه عن تقديم هذه الإجابات.
اخترت قائمة الأسئلة الحائرة بحثاً عن مجيب سؤالاً أو حزمة من أسئلة تحاول استشراف معالم مستقبل قريب أو بعيد ليس فقط لإقليم درجنا على اعتباره عربي اللغة والقوم والموقع والتاريخ، لكن أيضاً لعالم صارت تتحكم فيه أسباب فوضى خبيثة، تهددنا جميعاً بخطر انتشارها في كل خلايا البدن الدولي.. يتحدثون عن غرائب. أتصور أنه يوجد في عالمنا المعاصر غرائب أشد غرابة وفروقات أشد اتساعاً من أي غرائب، وفروقات في مرحلة سابقة في التاريخ السياسي، لكنها لا تبرر أن يعترف مسؤول سياسي أنه غير واثق من المستقبل.
دائماً وأبداً هذا المسؤول متيقن تماماً من هيمنة حالة عدم اليقين على التفكير في المستقبل. لم يتوقف الصحفيون في كافة أرجاء العالم عن توجيه هذا السؤال لكل مسؤول يرضى لنفسه أن يقف أمام صحفيين مجتهدين، لكن قلقين.
السؤال التالي مرتبط بالسؤال الأول. يسألون ولا يتلقون إجابة واحدة شافية. يعيش عالمنا حالة فوضى علاماتها واضحة لا تخطئها عين صحفي مجتهد. غزة على صغرها وضعفها، لكن برمتها إقليمياً ودولياً وإنسانياً وإعلامياً علامة بارزة على هذه الحالة من الفوضى. حالة لا تنظمها قواعد ولا قانون ولا أعراف ولا عقل متحضر، حالة أقرب ما تكون إلى حالة البداية عندما كانت الغابة من دون شريعة.
يسألون عن أسباب هذه الفوضى. أتفهم الحرج المصاحب للإجابة عن أسباب الفوضى الدولية وبخاصة ما تعلق منها بالظاهرة الترامبية في السياسة الدولية. ولكن يصعب على نهج تفكيري تفهم عدم الإجابة عن سؤال يبحث في أسباب الفوضى الإقليمية، أو تفهم إجابة ملتوية أو غير صحيحة أو إجابة تعبت وأتعبتنا بطول الكذب، الأبيض منه والشرير، أو إجابة تغوص في التاريخ قديمه وقريبه وكلاهما تعرض لحملات أفقدته سمعة الاستقرار.
قضيتان تداخلتا في الآونة الأخيرة وتحولتا إلى سؤال كبير يبحث عن إجابة تبدو بعيدة وصعبة. نتساءل مع جماهير الصحفيين العرب إن كانت الدول العربية منفردة أو مجتمعة أعدت إجابة عن سؤال يتعلق بمجمل الخطط التي تنفذ أو تعد حالياً في دول الغرب لطرد المهاجرين العرب إلى بلادهم التي هجروها أو هاجروا منها إلى الغرب، «علما بأن دولاً غربية معينة أدمجت في هذه الخطط أهدافاً شريرة تضع كل الطلبة والأساتذة الفلسطينيين والعرب واللاتينيين والمتعاطفين مع أهل فلسطين»، كلهم ضمن قائمة سوداء تمهد لطردهم بإيحاء أو توجيهات من الرأس الخفية للحركة الصهيونية العالمية التي تحرك عن بعد وأحياناً عن قرب بعض دمى السلطة في الغرب وخارج الغرب.
أسأل مع السائلين عن مصير نظام دولي تسدد فيه القنابل الحارقة ضد مختلف مؤسساته الواحدة بعد الأخرى. لا أمل بعد اليوم في مؤسسة كانت تقدَس حرية التجارة العالمية، أو في أخرى ركزت على صحة شعوب العالم، أو ثالثة تهتم بإنقاذ الفلسطينيين من جوع مدروس ومحق ومن أمية بشعة، أو رابعة تخصصت في استبعاد الحروب والطغيان وحماية الشعوب الضعيفة، أو خامسة مكلفة بإدانة ومحاكمة مجرمي الحرب. أضف إلى كل ما سبق دولة أعظم انحدرت مكانتها وهيبتها إلى حال راهنة داعية للحسرة والأسى.
السؤال المتردد بكثرة بين الصحفيين المهتمين بحال الإقليم عن بقية الخرائط المعدة في دول كبيرة وغير كبيرة للشرق الأوسط. رأينا خريطة أو خريطتين أطلعنا عليها نتنياهو، وفضولنا للاطلاع على الخرائط الباقية يتحول تدريجياً لرغبة عارمة.