صلاح الغول
ألقينا في مقال الأسبوع المنصرم الضوء على مفهوم الدبلوماسية الأخلاقية، والتي يمكن أن نُطلق عليها أيضاً «الدبلوماسية المعيارية». وفي التطبيق العملي قد لا تكون هناك دبلوماسية معيارية خالصة، وإنما لا يوجد تناقض بين أنْ تسعى الدول إلى تحقيق مصالحها الوطنية، وأن تستند سياستها الخارجية إلى بعض القيم الأخلاقية أو المعيارية الموجِهة.
وتمدنا الخبرة الإماراتية بما يدعم وجهة النظر تلك، فاستناد سياستها الخارجية على قيمة الكرم والعطاء، جعل دولة الإمارات تُعلي من شأن الدبلوماسية الإنسانية، وتجعلها إحدى أولوياتها الخارجية، ومحوراً رئيساً لسلوكها على الساحتين الإقليمية والدولية، إلى درجة أنها، برغم كونها دولة متوسطة، أصبحت من أكبر الدول المانحة، وخاصة في المجال الإنساني، قياساً إلى حجم ناتجها الإجمالي.
والواقع أنّ الدبلوماسية الإنسانية الإماراتية، التي أسس لها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، هي إنسانية بحق، بمعنى أن المساعدات الإنسانية الإماراتية تتوجه إلى المتضررين من الكوارث الطبيعية أو الاصطناعية والأقل حظاً في العالم، بصرف النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني أو المذهبي، أو توجههم الأيديولوجي، أو نظامهم السياسي والاقتصادي. فقد هبّت حكومة الإمارات لمساعدة العرب والتُرك والفرس والباكستانيين والهنود حين نزلت قارعةً بديارهم. كما وجهت مساعداتها الإنسانية إلى الشعوب اللاتينية والغربية، حين حلت بهم كوارث طبيعية. ولكنّ المساعدات الإماراتية لا تنقطع عن أهلنا الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وعن الشعوب الإفريقية في شرق القارة السمراء وغربها.
وفي الحروب والصراعات الأهلية، لا تبالي الدبلوماسية الإماراتية بأطراف الصراع أكثر من اهتمامها بالمتضررين منها وبضحاياها، بصرف النظر عن خلفياتهم. فقد قدمت دولة الإمارات العون اللازم للأوكرانيين والروس في الحرب الضروس المستمرة منذ ثلاثة أعوام ونيف، وقدمت الطعام والدواء والكساء لكافة ضحايا الحرب الأهلية في السودان، التي قطعت عامين ونيف.
علاوة على ذلك، فإنّ وجود قيمة التسامح في صلب النظام العقيدي للسياسة الإماراتية جعلها «تنسج بنهجها الخير الذي أرساه زايد أنموذجاً عالمياً في التسامح والتعايش»، كما أكّد صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، عندما كان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وقد جعل الشيخ زايد، رحمه الله، وخلفاؤه من بعده التسامح دستوراً للتفاعلات الدولية لدولة الإمارات. ففي لقائه السفراء الجدد، في مارس/آذار 1998، أكّد، طيب الله ثراه، أنه «يجب علينا كحكام مسؤولين عن الشعوب أن نتعامل مع بعضنا بعضاً على أساس من التسامح والرحمة والحوار، وليس بالمواجهة والحروب والدمار».
والواقع أنّ العمل من أجل تعزيز مبادرات وشراكات التسامح والتعايش الإماراتية إقليمياً ودولياً، وتعزيز مكانة دولة الإمارات كمركز عالمي للتسامح والتعايش، يعد أحد المحاور الرئيسية لعمل الدبلوماسية الإماراتية. وفي هذا الخصوص، أوضح سموّ الشيخ عبدالله بن زايد وزير الخارجية أن دولة الإمارات كانت وستبقى ملتزمة بالوسطية في منهجها، وتقبل المجتمعات الأخرى كجزء من عالم متنوع قائم على الاحترام المتبادل، وتؤكد أهمية ترسيخ قيم التسامح والاعتدال واحترام الأديان وحمايتها من التجريح والازدراء، وعلى ضرورة وضع التشريعات الدولية اللازمة في هذا الشأن.
وبعيد توليه منصب رئاسة الدولة في مايو/أيار 2022، أظهر صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، مبادئ سياسته الخارجية الثمانية، والتي يشدد خامسها على دعم وتمكين خطاب الوسطية ومكافحة التطرف، وتعزيز ثقافة التسامح والانفتاح.
وثمة مؤشرات عديدة ومتنوعة تبرهن على مصداقية استناد الدبلوماسية الإماراتية إلى التسامح، كونه قيمة أساسية «ترشدنا في توجهاتنا السياسية، وهي تمثل قيماً غالية لمواطني الإمارات ولمجتمعنا كله»، كما ورد عن شيخ الدبلوماسية عبدالله بن زايد، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2021. بيد أنّ أهم هذه المؤشرات هو تأسيس والإشراف على المؤسسات المعنية بنشر قيم التسامح وقبول الآخر، وتفكيك خطابات الكراهية والتطرف ومواجهتها، مثل مركز «صواب» للتصدي لرسائل التطرف والإرهاب الإلكترونية، ومركز «هداية» لمكافحة التطرف، و«مجلس حكماء المسلمين» الذي يهدف إلى التعريف بالوجه الحقيقي لديننا الإسلامي الحنيف، و«منتدى تعزيز السّلم في المجتمعات المسلمة» الذي يهدف إلى تأصيل مبدأ السلم عند المسلمين، والمعهد الدولي للتسامح الذي يهدف إلى بناء وتأهيل قيادات وكوادر شابة، تؤمن بقيمة التسامح والانفتاح والحوار بين الأديان والثقافات.
فضلاً على ذلك، تؤمن الدبلوماسية الإماراتية بأنّ تعزيز قيم الأخوة الإنسانية بين الدول والشعوب، هو مفتاح تحقيق السلام والازدهار في العالم، ومواجهة نزعات التطرف والعنف والإرهاب، ومن هنا، كانت استضافة المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية في أبوظبي في فبراير/شباط 2019، والذّي صدر عنه «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيشِ المشترك»، والتي تهدف إلى ترسيخ مبادئ الحوار بين الأديان، وتعزيز القيم الإنسانية المشتركة، ومحاربة التطرف والكراهية، والعمل على تحقيق التعايش بين الشعوب.
وقد تحركت وزارة الخارجية بفاعلية على المستوى الدولي من أجل تحويل هذه الوثيقة التاريخية إلى وثيقة دولية رسمية، لترسيخ نهج الإخوة الإنسانية عالمياً. وقد أثمر تحركها بالفعل عن اعتماد الأمم المتحدة يوم الرابع من فبراير/شباط - يوم توقيع الوثيقة - يوماً عالمياً للأُخوة الإنسانية.
[email protected]