خالد عبدالله سيار الحوسني *
في عالم يتغير بسرعة البرق، لم يعد التمسك بالمواقف السياسية التاريخية دليلاً على الحكمة، بل قد يكون انتحاراً استراتيجياً. هذا الثبات المتصلّب يُحوّل الدول إلى تماثيل ثلجية في عصر الذوبان الجيوسياسي: صلبة المظهر لكنها آيلة للزوال. فما كان يُعدّ مبدأ راسخاً بالأمس قد يصبح اليوم غروراً يكبل الأيدي.
ليست المشكلة في مشروعية المواقف عند ولادتها، بل في غياب آليات تقييم دورية تدرك أن لكل مرحلة سياقها الخاص. فما كان يُعبّر عن المصلحة العليا في حقبة الصراعات الباردة، قد يصبح عبئاً في زمن الاقتصاد الرقمي، والأمن البيئي، والتنافس التكنولوجي إن لم يخضع لتقييم منهجي مستمر.
بعض الدول التي التزمت لعقود بمقاطعة شاملة لدولة جوار بسبب نزاع تاريخي، رغم تغيّر الظروف وتشابك المصالح الاقتصادية، تحول الثبات على المواقف التاريخية إلى حاجز أمام تكامل الأسواق، وعرقلة المشاريع التي كانت ستوفر مليارات الدولارات لدول المنطقة، أو الدول التي استنزفت مواردها في صراعات إقليمية كاليمن أو سوريا بدوافع أيديولوجية أو طائفية، بينما تتحوّل أولويات شعوبها نحو التنمية والاستقرار.
التمسّك الأعمى بسياسات متجاوزة ليس حياداً ولا دفاعاً عن الثوابت، بل هو خسارة فرص تاريخية من خلال تعطيل الاندماج في سلاسل التوريد العالمية، وتقويض فرص الاستثمار في البنى التحتية الإقليمية. كما يؤدي إلى استنزاف الوجود الإنساني بإطالة أمد النزاعات، ما يُنتج مجتمعات هشّة، ويُغذّي التطرف، ويجعل الدولة ساحة لتجاذبات القوى الكبرى. ويُضاف إلى ذلك تآكل القوة الناعمة، إذ يُضعف الجمود القدرة على التأثير الثقافي والدبلوماسي، خاصة لدى أجيال ترفع شعارات مختلفة عن شعارات الماضي.
هنا تبرز الإشكالية الحقيقية: كيف نوفّق بين المرونة الاستراتيجية والثوابت القيمية؟ فالمراجعة لا تعني التخلّي عن المبادئ الجوهرية، مثل رفض الاحتلال أو الدفاع عن السيادة، لكنها تعني إعادة تقييم الأدوات والتحالفات وأولويات الصراع. فهل الاستمرار في نزاع إقليمي ثانوي يُبرّر تفويت فرصة تحالف استراتيجي مع قوى ناشئة؟ إن الخطأ ليس في التمسك بالقيم، بل في رفض تمييز الثابت من المتغير، والخلط بين الوسيلة والغاية.
المراجعة ليست عملية تقنية سهلة، بل تواجه عوائق جذرية، من أبرزها الموروث الشعبي الذي يحوّل المواقف التاريخية إلى رموز مقدسة يصعب نقدها دون اتهام بالخيانة. وتظهر أيضاً مصالح النخب، إذ تتحالف بعض النخب السياسية أو العسكرية مع استمرار النزاع لتحقيق مكاسب مباشرة. تضاف إلى ذلك مخاوف تتعلق بالمصداقية، حيث يصعب إدارة التغيير دون أن يظهر أن الدولة متناقضة أو ضعيفة، فضلاً عن القصور المؤسسي وغياب آليات منهجية لتقييم السياسات بعيداً عن التأثير السياسي المباشر.
ولتحويل الدعوة إلى واقع ملموس، لا بد من مسارات عملية تبدأ بآلية وطنية للمراجعة الاستراتيجية عبر هيئة مستقلة تضم خبراء استراتيجيين ومحللين اقتصاديين ومختصين في القانون الدولي، تقوم بتقييم السياسات كل ثلاث إلى خمس سنوات وفق معايير الكلفة والفائدة، والانعكاسات الإنسانية، ومدى التوافق مع الثوابت الدستورية. كما يُفترض تنشيط دبلوماسية متعددة المسارات، عبر فتح قنوات في مجالات غير سياسية، مثل الصحة والبيئة والأمن الغذائي مع «الخصوم» السابقين، كما فعلت بعض الدول الخليجية في وساطات إنسانية بإفريقيا.
لا يمكن تجاهل أهمية إشراك المجتمع في عملية المراجعة، عبر حوارات وطنية صريحة حول كلفة الثبات، تتناول ما خسرناه وما يمكن أن نربحه، مع تقديم بيانات شفافة تعزز ثقة المواطنين.
ينبغي تمييز طبقات السياسة: فالثوابت مثل الدستور والسيادة والكرامة الوطنية غير قابلة للمساومة، أما الاستراتيجيات كالتحالفات وأولويات الصراع فهي قابلة للتطوير كل عشر سنوات، في حين تظل التكتيكات من أدوات ضغط وشراكات اقتصادية قابلة للتغيير بشكل سنوي.
ختاماً: المراجعة الاستراتيجية ليست ترفاً فكرياً، بل هي تنفس الدولة الحيوي في عالم خانق. فالشجاعة الحقيقية ليست في التشبث بالمواقف حتى الإعياء، بل في الجرأة على سؤال الذات: هل ما زلنا نخدم شعبنا أم نحن أسرى شعارات الأمس؟
هنا يُختبر الفرق بين دول تموت بثباتها، ودول تولد من جديد بمرونتها. ففي عصر التحولات الجيوتقنية، لم تعد السيادة تعني الجمود، بل القدرة على التكيّف الذكي: الثبات في القيم التي تُشكّل الهوية، والمرونة في الوسائل التي تضمن البقاء.
* ماجستير في السياسة والتجارة الدولية