لكل شاعر «عائشة»

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

شغلت شخصية «عائشة» الكثير من شعر عبد الوهاب البياتي، وتنقّلت تلك المرأة الغامضة في شعره عبر مراحل حياته كلها. وحتى في شيخوخته كانت عائشة حاضرة حتى في شعره ذي النفس الوجودي أو التأملي، بل أفرد لهذه الشخصية كتاباً خاصاً بعنوان «بستان عائشة».
أذكر في عام 1996، وفي العاصمة الأردنية عمّان في ليلة شتائية أن سألت «أبوعلي»: من عائشة هذه؟ في شعره وفي حياته. حينها، تورّد وجه البياتي، وابتسم، ثم قرّب مقعده ناحيتي وأخرج صورة فوتوغرافية صغيرة لامرأة كان يضعها في محفظته، وقال: هذه عائشة. وقبل أن أرى الصورة جيداً أعادها بسرعة إلى محفظته، وعاد يبتسم مرة ثانية بوجه وردي حزين.
أصدر البياتي في عام 1968، أي قبل 57 عاماً، كتاباً بعنوان «تجربتي الشعرية» في 117 صفحة من القطع الوسط، والغريب أن هذا الكتاب النادر قد صدر آنذاك في بيروت عن منشورات نزار قباني على الرغم من العلاقة الشخصية المضطربة بل المتوترة دائماً بين البياتي وقباني. وفي حوار صحفي، سُئل البياتي عن رأيه في نزار قباني فقال بطريقته اللاذعة الساخرة إنه يبدو له مثل ابن مدلل لضابط تركي.
في مكتبتي القديمة في عمّان، عدت إلى هذا الكتاب النادر، ووجدت فيه فصلاً بعنوان «مدينة العشق» لأقرأ عن حياة البياتي العاطفية وعلاقته بالنساء، وبالتالي، علاقته بعائشة، ولكنّ قارئ هذا الكتاب لن يجد شيئاً لا عن عائشة ولا عن أي امرأة أخرى في حياة البياتي الشاب آنذاك، وسوف تظل عائشة مجرد لغز، أو رمز، أو أيقونة متخيلة، وليست امرأة حقيقية حتى لو كان «أبوعلي» يحتفظ بصورة فوتوغرافية لامرأة يقول إنها عائشة.
لن تجد عائشة أبداً لا عند البياتي ولا في ذلك الكتاب القديم، لكنك ستجد ذات البياتي نفسها، شخصيته، وأعماقه، وكينونته الوجودية والنفسية. يقول «إن قواي كانت كامنة في صمتي وعذابي الأخرس، وذلك النذير الغامض الذي كان يحيط بي». بل أكثر من ذلك يعترف صاحب «قمر شيراز» بأن قواه لم تكن صفات خارجية، مادية، بقدر ما كانت قوى بدائية همجية، كما يقول بالحرف في كتابه «تجربتي الشعرية» وهو يعزو ذلك إلى الوراثة، وإلى صفات كامنة مدمرة طال بها الكبت والانتظار.
وفي نهاية الأمر، لكل شاعر «عائشته» المخبأة كصورة في محفظة، أو تلك المخبأة في قلبه، كما أن لكل شاعر قواه الصامتة، لكن مع الأيام، وبالتجربة والثقافة والحب يتحوّل الشاعر الهمجي هذا إلى ما يشبه قصبة النّاي الذي يبكي مع كل رنة موسيقى، ومع كل قصيدة يكتبها وهو في عذابه الأخرس.
[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"