د. محمد السعيد إدريس
لم يكن مفاجئاً ذلك «الخطاب الناري» الذي شنه وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث أمام «منتدى حوار شانغريلا» للأمن في سنغافورة أواخر الشهر الماضي على الصين، متهماً إياها بأنها «تستعد لاستخدام القوة العسكرية لتغيير ميزان القوى في آسيا»، متعهداً بأن الولايات المتحدة ستبقى بجانب حلفائها في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ.
فالصراع التجاري الأمريكي الصيني، المتفجر منذ أن صَعَّدَ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذا الصراع، عبر موجات متتالية ومتعاقبة من رفع الرسوم الجمركية، في مواجهة السلع الصينية التي وصل بها إلى 145% واضطر الصين للرد بالمثل، ورفعت رسومها الجمركية هي الأخرى على السلع المستوردة من الولايات المتحدة إلى نسبة 125%، لكن المفاجأة الكبرى أن هذا الهجوم الذي شنه وزير الدفاع الأمريكي على الصين من سنغافورة بحضور الأقطاب الآسيويين جاء بعد ساعات فقط من تلميح الرئيس ترامب إلى تجدد التوترات التجارية مع الصين، متهماً إياها ب «انتهاك» الاتفاق الذي كان قد تم التوصل إليه في منتصف مايو/أيار الفائت في جنيف بين الطرفين الأمريكي والصيني، ويقضي بتعليق العمل بالزيادات الكبيرة في الرسوم الجمركية بينهما فترة 90 يوماً، حيث كان ترامب قد كتب على منصته «تروث سوشيال» أن الصين «انتهكت اتفاقها معنا بشكل كامل». الصين، بدورها، رفضت اتهامات ترامب لها بانتهاك اتفاق جنيف، وحذرت من أنها ستتحرك لحماية مصالحها الوطنية.
ما الذي دفع ترامب لتوجيه تلك الاتهامات للصين، وماذا تعني استجابة وزير الدفاع الأمريكي لتصعيد رئيسه ضد الصين في مجال يتعلق بالاستراتيجيات العسكرية والصراع الاستراتيجي بين البلدين؟ هل الأصل في الصراع الأمريكي الصيني هو القضايا التجارية أم القضايا الاستراتيجية. وهل ستصعِّد أمريكا ضد الصين استراتيجياً كرد فعل لعجزها في كسب معركة «التصعيد التجاري» أم أن التصعيد الاستراتيجي الأمريكي ضد الصين هو المتغير الأصيل، والتصعيد التجاري هو المتغير التابع، أم أن العكس هو الصحيح، وأن الصراع الاستراتيجي الأمريكي الصيني سيعود ليتصدر المواجهة بين الطرفين على نحو ما كانت الأمور تسير في عهد الرئيس السابق جو بايدن وإدارته الديمقراطية التي جاهدت لتأسيس تحالف استراتيجي أمريكي آسيوي على غرار «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)؟
أسئلة مهمة لم تحسم إجاباتها بعد، لكن يبدو أن ترامب أعطى الأولوية لإدارته، خاصة طوال المئة يوم الأولى من إدارته، لتحقيق دفعة قوية في معالجة الأزمات الاقتصادية، لتوفير القدرات المالية اللازمة لتحقيق هدف «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» وهو «الهدف» أو «الشعار» الذي تبنته حملة ترامب الانتخابية، لكن ربما يكون الوضع قد اختلف الآن بعض الشيء، وأن إدارة ترامب عادت لتعطي للقدرات الاستراتيجية الأولوية التي تستحق، بدليل أن وزير الدفاع الأمريكي، الذي يُعد من «صقور» الإدارة الأمريكية، اختار أن يكون خطابه أمام مؤتمر «شانغريلا» في سنغافورة (2025/5/31) مرتكزاً على الصين وعلى ما يعتبره «عدوانية صينية ضد تايوان»، حيث اعتبر أن «التهديد الذي تشكله الصين حقيقي، وقد يكون وشيكاً». وقال إن بكين «تستعد بصورة موثوقة لاستخدام محتمل للقوة العسكرية لتغيير ميزان القوى في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ»، وحذر من أن الجيش الصيني «يعمل على بناء القدرات لاجتياح تايوان ويتدرب على ذلك فعلياً»، واستخلص من ذلك ما مفاده أن الولايات المتحدة «تعيد توجيه نفسها من أجل ردع عدوان الصين الشيوعية». داعياً حلفاء بلاده وشركاءها في آسيا إلى «الإسراع برفع الإنفاق في المجال الدفاعي لمواجهة التهديدات المتزايدة»، مؤكداً أن منطقتي المحيطين الهندي والهادئ «تبقى أولوية أمريكية»، ومتعهداً ضمان أن الصين «لن تهيمن علينا أو على حلفائنا أو شركائنا».
الصين ردت على خطاب «بيت هيغسيث» في بيان صدر عن السفارة الصينية في سنغافورة، اعتبر أن هذا الخطاب «استفزازي وتحريضي»، وأنه خطاب «غير ودود وتصادمي للغاية»، واتهم البيان واشنطن باعتماد «معايير مزدوجة»، حيث تطالب الصين باحترام جيرانها، وتسعى هي لضم كندا وجزيرة جرينلاند التابعة للدنمارك، لكن أكثر ما يهم الصين ليس تصريحات وزير الدفاع الأمريكي بخصوص تايوان والسياسة الصينية في بحر الصين الجنوبي، بل إن ما يهمها هو الجديد في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب، وهل تتبنى إدارة ترامب استراتيجية عسكرية هجومية أم تكتفي باستراتيجية عسكرية دفاعية وتعطي الأولوية لتحقيق التفوق الاقتصادي؟
للصين قدراتها الهائلة للحصول على إجابات جيدة عن هذا السؤال، لكنها لا تستطيع أن تتجاهل ما تقوم به الإدارة الأمريكية ومؤسساتها الدفاعية من مراجعات للاستراتيجية العسكرية الأمريكية، وتخصيص ميزانيات إضافية لبرامج عسكرية جديدة، لمواجهة ما تعتبره «توازناً دولياً جديداً للقوى تعتقد أنه يختل على حسابها» بلغت قرابة تريليون دولار، ما يعادل 12% زيادة في الإنفاق العسكري وتحفيز الصناعة الدفاعية، كما أنها لا تستطيع أن تتجاهل وعود وزير الدفاع الأمريكي «بيت هيغسيث» عقب أدائه اليمين الدستورية في يناير/كانون الثاني الماضي بأن يضع أمريكا «في المقام الأول» وأن «يحقق السلام من خلال القوة»، وأنه سيجلب إلى البنتاجون (وزارة الدفاع) ثلاثة مبادئ هي: «استعادة روح المحارب، وإعادة بناء الجيش، وإعادة ترسيخ الردع».
لكن أهم ما تعيه الصين هو أن هذه الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة تعتبر أن الصين «تشكل التحدي الأخطر على الولايات المتحدة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً»، ولذلك فإنه على الرغم من كل تصعيد في الحرب التجارية يبقى الصراع الاستراتيجي هو جوهر الصراع الأمريكي مع الصين.