الكتاب.. العمر الثاني للإنسان

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

كانت «دار الحوار» في بيروت في مطلع ثمانينات القرن العشرين واحدة من أنشط دور النشر العربية في إصدار عناوين نوعية مقروءة على نطاق واسع بين مثقفي وكتّاب الوطن العربي، وآنذاك صدر عنها كتب نحسبها اليوم نافدة تماماً من سوق الكتاب العربي مثل «تاريخ الهنود الحمر»، و«تاريخ الإرهاب الأمريكي»، و«منعطف المخيلة البشرية»، و«نظرية اللغة والجمال في النقد الأدبي»، وغيرها من عناوين في الأدب والعلوم والفكر والفنون.
لم تكن «دار الحوار» حالة نشرية استثنائية أو وحيدة، بل كان النشر في بيروت صناعة وفناً وظاهرة ثقافية في ثمانينات وسبعينات القرن الماضي، وما زلنا إلى اليوم نتذكر سلسلة «ذاكرة الشعوب» التي كان لها الفضل الثقافي في تعريفنا بروايات من آسيا وإفريقيا وأوروبا ربما لم نكن نعرفها من قبل، غير أن هذه السلسلة توقفت بعد انتشارها المهني والثقافي على مستوى عربي، وبذلك خسر القارئ العربي مصدراً بالغ الأهمية في ثقافة القراءة، وبخاصة عبر الترجمة من لغات العالم إلى العربية وبأداء ترجماني نظيف آنذاك، واستُخدم هنا وصف «نظيف» عن قصد أخلاقي بالدرجة الأولى، فقد كانت الترجمة تصدر عن ضمائر ثقافية نظيفة، ولم تكن النزعة التجارية الاستهلاكية في الترجمة موجودة آنذاك كما هي الآن في بعض، بل الكثير من منصات سوق الكتاب العربي.
في كل مرة أعود فيها إلى كتب الثمانينات التي اشتريتها آنذاك من الأكشاك والأرصفة وباعة الكتب القديمة، أعود في الوقت نفسه إلى شبابي وشباب جيلي، بل أعود إلى شباب حركة النشر الثمانينية تلك، ويمكن القول إنها حركة تأسيسية بالنسبة إلى شعراء جيل الثمانينات على نحو خاص.
سلاسل مثل «عالم المعرفة»، و«عالم المسرح» في الكويت، وبعض السلاسل المترجمة الصادرة في دمشق، وبغداد والقاهرة كانت تشكل ثقافة ذلك الجيل، وتوجهه إلى نوع رفيع المستوى من القراءة التي كانت تحيط بالروايات والشعر بشكل خاص. وحين يعود شاعر ثمانيني أو سبعيني إلى مكتبته القديمة تلك يجد أنه كان قارئ ترجمات أكثر منه قارئ مادة عربية خالصة، أما تلك المادة فقد كانت مقتصرة على نجوم الكتابة آنذاك: في الرواية: عبد الرحمن منيف، ونجيب محفوظ، وحنا مينة. وفي الشعر: محمود درويش، وأمل دنقل، وممدوح عدوان، ومحمد الماغوط. وذلك على سبيل الأمثلة الموجزة المختصرة لا الحصر، فما أكثر نجوم الثمانينات من العرب إلى جانب نجوم العناوين المترجمة: بابلو نيرودا، ناظم حكمت، أدب أمريكا اللاتينية وشعرائها، وشعر الهنود الحمر، والشعر الروسي، والرواية الروسية، وغيرها من ترجمات ضميرية نظيفة.
ربما هذه هي المرة الثانية وربما الثالثة التي أكرر فيها الكتابة حول ظاهرة النشر والترجمة والقراءة في ثمانينات وسبعينات القرن العشرين، ويعود هذا التكرار المبرر أحياناً كما أرى إلى أمرين: الأول هو الحنين ولا أكثر من ذلك، والثاني جودة كتاب الثمانينات وحيويته الأدبية سواء الترجمانية أو الإبداعية العربية، ومرة ثانية كان ذلك الكتاب الثمانيني كتاباً تأسيسياً لجيل تلك المرحلة، وإذا أردت فاسأل أي شاعر عربي من جيل الثمانينات وتأمل إجابته حول القراءة وذاكرتها وتاريخها ذاك، لتعرف أن الكتاب هو العمر الثاني للإنسان، وأن القراءة ذاكرة، تخلّف وراءها كل هذا الحنين.

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"