يحيى زكي
هل قربتنا وسائل التكنولوجيا الحديثة من بعضنا البعض، أم جعلتنا نعيش في جزر معزولة لا علاقة تربط بينها؟ هو سؤال فرضه الانتشار الكاسح للإنترنت وتوابعها من مواقع التواصل، ما أتاح ظاهرياً سهولة أن نؤسس علاقات مع بشر يعيشون في الجانب الآخر من العالم ب«كبسة زر».
لكي تؤسس التكنولوجيا الحديثة لعلاقات قوية بين البشر، لابد أن تؤسس أولاً لمعادلة صحية بين الفرد والمجموع، لكن ما حدث كان العكس تماماً، لقد أبرزت تلك التكنولوجيا أسوأ ما في الاثنين معاً، بحيث بتنا لا نلاحظ إلا أخلاقيات فردية لا تحض إلا على الأنانية واللامبالاة، بينما تسود روح القطيع على مستخدمي تلك التكنولوجيا.
لقد دار جدل طويل طوال التاريخ بين النزعة الفردية والجماعية، بين رؤى وأطروحات وفلسفات تعلي من شأن الفرد: حقوقه وحرياته وأيضاً واجباته، ووجهات نظر تمنح البطولة للمجموع، وتجلّى ذلك في مختلف حقول النشاط الفكري، بداية من الأنظمة السياسية وحتى مختلف العلوم الإنسانية.
في خمسينات وستينات القرن الماضي، توزع العالم على نظامين سياسيين واقتصاديين، عرف الأول بإعلاء الفرد، والثاني برفع قيم الجماعة إلى الصدارة، وانعكس ذلك في حقول عدة، في التاريخ مثلاً دار سؤال كبير حوال العامل الحاسم في سير الأحداث، هل هو الفرد أم التحولات الاجتماعية والاقتصادية؟ ووصل الأمر إلى الأدب، وتحدث البعض عن تيارات واقعية لا بد أن تهتم بصوت المهمشين ولا تصور إلا مشاكلهم وأحلامهم وآلامهم، وتيارات أخرى تحدثت عن وحدة البطل الفرد وعزلته وأزمته واغترابه في مجتمع يتوحش ويصيبه بالاغتراب، وفي الفن دار جدل مماثل بين من يقول ب«الفن للفن»، فعلى الفنان أن يعكس ما داخل ذاته بغض النظر عن قدرة الآخرين عن فهم ما يقدمه، بينما ذهب اتجاه آخر إلى تأكيد أن الفن يجب أن يكون للمجتمع، يصوّر ما يحدث فيه ويخاطب الجميع بغض النظر عن مستوياتهم المعرفية.
كان لكل اتجاه أنصاره ورؤاه ونظرياته، ولكل منهما أنصار يهاجمون التيار الآخر وينتقدونه وبقسوة أحياناً، وبعد انتهاء الحرب الباردة السياسية والثقافية، وهدوء الأجواء والنظر للأمور بعقلانية ترسخت في النهاية أسس وقواعد وقيم صحية تعرّفنا إلى معنى الفردية أو النزعة الجماعية، ففي النهاية كانت الفردية تؤشر إلى الابتكار والإبداع وروح المغامرة، بينما تحيل النزعة الجماعية إلى التضامن والتكافل والتعاون بين البشر، وأصبحت صحة المجتمعات تقاس بذلك التوازن بين حقوق وواجبات الفرد وقيم وأخلاقيات الجماعة.
دمر تغول التكنولوجيا الحديثة كل قيمة إيجابية في الاتجاهين، فالتعامل اللحظي مع الهاتف المحمول خلق عالماً صغيراً ومنزوياً لكل فرد، هو عالم لا أهمية فيه إلا ل«الأنا» بكل رغباتها اللحظية وأحلامها الضيقة التي لا تشاركها فيها أحد، تحول الفرد إلى جزيرة معزولة عن الآخرين، ودمرت سطحية مواقع التواصل قدرة الفرد على الإبداع والتجديد، وأصبح الجميع يقلد الجميع، واستنسخنا بعضنا البعض في الأفكار والسلوكيات وحتى في الأيقونات التي تعبّر عن أكثر ما يميزنا بصفتنا بشراً وهو مشاعرنا.