هل خطرت ببالك فكرة من ذوات الخيال البعيد، كهذه؟ بالمناسبة: سبقتها في «اللزوم» قبل سنوات، دعوة إلى تدريس العلوم الإدارية، منذ الابتدائية، فليس ثمّة شيء يحتاج إليه جلّ العالم العربي، كالإدارة الفائقة في جميع مجالات الحياة العامّة. أهل العلوم الاجتماعية والسياسية، مجمعون على أن مشكلات التنميات المتعثرة، كلها إداريّة. إذا صلحت الإدارة، أشرقت شمس التنمية، وإذا كبت وانكبّت، انصبّت الهموم على التنمية، فخاب مسعاها، وأجدب مرعاها.
المقترح اليوم قد يلوح أغرب. إلّا أن المنطلق الذي انبثقت منه الفكرة، هو: ما مدى رسوخ الأمن القومي في الوعي العربي؟ البرهان المحرج: لو كان الأمن القومي محرّكاً فعّالاً في شرايين الوعي العام، هل كانت الخريطة العربية، في الكثير من مواقعها، تغدو وتمسي بسهولة، لعبةَ كل ريح؟ وعي الأمن القومي، مرتبط بأربعمئة مليون عربي. القضية أبعد مدىً من تنظير الأحزاب واستدلالات إعلامها. القضية تمتدّ جذورها إلى التربية في الأسرة والمدرسة.
ليس المقترح ضرباً من اللامعقول، كتدريس الأمن القومي للصغار، على صورة مقرّر في الجغرافيا السياسية، ولكن عطفاً على التذكير بأن التعليم شيء والتربية شيء آخر. السؤال جليّ: ما هو سبب هشاشة عظام الأمن القومي العربي؟ هل ظفرت البلدان العربية بكنز أفكار بديل من العمل العربي المشترك في هذا الحقل المحوري الحيوي؟ ببساطة: لماذا توهّج في ميراثنا التربوي القول المأثور، الذي مفاده: تعليم الصغار الرماية والسباحة وركوب الخيل؟ أليس هذا إعداداً وتأهيلاً في صميم الأمن القومي؟ أليس هذا تكويناً في جوهره فنون قتالية؟ ما هي أبعاد الرماية والفروسية؟ أليس في السباحة لمسات من تمارين«الضفادع البشرية»؟ هل ينبغي للعربي أن يستغني عن ترسانة مرادفات السيوف بنقرة إلغاء حاسوبية؟.
لا شك في أن الذين ينظرون باستخفاف إلى مقترح تنمية الوعي العام بالأمن القومي، يستندون إلى أوهام من قش، يظنون أن ذلك من طبائع الأنظمة الشمولية، التي تعمل على عسكرة شعوبها. وهمٌ باطل، فمنذ ظهرت فكرة تنظيم الجيوش، في فجر التاريخ، لم توجد عقيدة عسكرية قطّ لا تدعو إلى افتداء تراب الوطن بالروح. وما تراب الأمّة سوى باقة أرواح في روح. وما سعي الدول، المتباينة في مكوّناتها، إلى تشكيل تكتلات وأحلاف، إلاّ حاجة ماسّة إلى العمل المشترك، فما بالك بها إذا كانت أواصرها وماضيها وحاضرها ومصيرها واحدة؟.
لزوم ما يلزم: النتيجة التربوية: إذا ساء حظ المقترح، فعلّموهم واشرحوا لهم: «تأبى العصيّ إذا اجتمعن تكسّراً.. وإذا افترقن تكسّرت آحادَا».
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







