د. نسيم الخوري
أنتظر زميلاً فرنسيّاً في «جامعة السوربون 3» في مقهى قرب «قوس النصر» بباريس متابعاً عبر المحمول جديد بلادنا هناك.
قلت: ماذا يحصل؟ أجبت دعك من هذا السؤال إذ مهما استغرقت الحروب عبر التاريخ سيبقى عنوانها مقيماً متكرّراً أحداثاً عبر تواريخ «الحضارة الإنسانية» بين قوسين المسكونة بالعنف والقتل والتدمير فتذوب عبر الأحزان والخيبة فالهدوء والسلام والنسيان والتدوين للأجيال في المدارس والجامعات عبر كتب التاريخ والمذكرات عبر التاريخ.
يا لتاريخ البشرية منذ صّور الاحتماء بصخرة فبندقية ودبابة وطائرة للقتل يخفي حلماً بطاولة خشبية يتمّ تجهيزها للحوار وفوقها الزهور وحفلات توقيع وقف القتال والسلام والتصفيق لمن لم يدركهم الموت.
أليست هي اللعبة الدموية التي تدمغ تاريخ البشرية منذ قابين قاتلاً شقيقه هابيل بحجر فجّ رأسه؟ هي اللعبة الهائلة والمعقّدة سجينة حرفي الحاء: «الحروب والحضارات».
سألني زميلي مبتسماً عن الجديد المتوقع في جنوب لبنان وغزّة، وراح يُباسطني محاولاً تسخيف الجديد في تواريخ الحروب التي تغرق فيها دول العالم القديم والمعاصر مذكّراً بجرف المعالم الأثرية العظيمة في بلاد ما بين النهرين وحضاراتها التي لم تكن تسمع بها أو تدركها لا أوروبا ولا الغرب.
قال مبتسماً بذكاء مقصود: أنظر أمامك معالم «قوس النصر» هذا الذي يشدّ إليه السائحين من الدنيا...لقد نسيت البشرية الحروب والقتلى والدماء والمعارك الهائلة التي خاضها نابليون بونابرت في حياته قبل أن يمرّ تحت قوس النصر. لو تأمّلت فقط متصوّراً أعداد المهندسين والعمّال بأيديهم المشقّقة النازفة والقابضة على الأزاميل لنقش قوس النصر هذا أمامنا أو كلّ المنقوشات التي اعتبرها نابليون حضارة قدّمها الى البشرية، عندها تدرك مدى القرابة التاريخية الرحمية بين الحروب والحضارات. راح يعرّي معلماً حضارياً يوسم تاريخ العالم بنصر نابليون أو رغباته في نقش اسمه وكنيته في الخلود. بان لي جوابه في صيغٍ متحيّرة بين الإعجاب والازدراء بمعالم التاريخ الفرنسي وتاريخ الشعوب. كان وكأنّه يقصد، على الأرجح، البحث عن أعداد الأموات والمقعدين الذين نقشوا تخليد نابليون وفرنسا فوق الأحجار والساحات والجادات والذاكرات. أخذنا النقاش نحو المجادلة والاتفاق والإقرار بأن العديد من شابات وشباب فرنسا في الجامعات والأجيال المعاصرة باتوا لا يحنون رؤوسهم لمعالم حضارتهم بل هم يحتقرون الدماء والعنف والحروب.
أرجعتني هذه الجلسة عقوداً ثلاثة الى الوراء إذ وجدت موضوع مقالي هذا عندما أجبرتني الحروب المتعددة الجنسيات في لبنان للبقاء عقداً ونصف في باريس، كنت أمرّ خلالها يومياً تحت قوس النصر في منتصف الطريق بين منزلي ومركز عملي مديراً في مجلّة «المستقبل» التي تمّ تأسيسها في الشانزيليزيه 1976 وكان العميد ريمون إده جارنا في فندق «البرانس دوغال» ويتقاطر سياسيو لبنان إلينا زرافاتٍ ووحدانا.
أعترف بأنني وصلت الى درجة لم أعد أشاهد فيها قوس النصر سوى ممرّاً تحته نحو مكتبي لكأنه معلم للشرود والحزن بحثاً نهائيّاً عن وطنٍ جديد. لطالما كنت أسأل الحرّاس الذين ألفوا وجهي هناك عن أعداد الصور اليومية التي التقطها السوّاح الآتين من الدنيا لالتقاط صورهم قرب قوس نصر نابليون بونابرت هذا، ولطالما كانوا يضحكون لسؤالي لسببين: لكونه لا جواب له ولأنّهم باتوا كما أعمدة قوس النصر، لا يرون فيه أكثر من مكانٍ نصر في ساحةٍ ضجرت متعبة وحافلة بنصر منسي يعجّ بالناس يبحثون عن صورهم بهدف التباهي الذي لا قيمة له سوى بهجة السفر والتركيز على نشر الصور الذاتية عبر أجهزة التواصل لا على نابليون وتاريخه الذي يقيم في النسيان العميق للمقام العام وأسبابه وحكمته. غريب هذا التداخل البشري بين الحروب والآثار والحضارات والناس عبر تعاقب أجيالها ومفاهيمها. إنه الخلاف المُحيّر الجذري في تقويم التاريخ البشري الدموي.
أعترف بحكم الألفة، بأنّني لم أعد أشاهد قوس النصر بعظمته المعهودة لدى الواقف تحته للمرّة الأولى، ولشدّة ما بهتت صورته بين بيروت المقتولة الجريحة يومذاك وباريس التي لا تنتهي من استقبال السائحين من بلاد العالم لالتقاط الصور وتخزينها في أدراجهم وهواتفهم، كنت أعقد مقارناتٍ بين أقواس النصر في عواصم العالم وأحواض التنك التي تحضن شتلات الحبق التي كانت تزرعها أمي رحمها الله فوق الشبابيك الخضراء في «الكفير» تلك القرية الصغيرة في جنوب لبنان. كان المحظيون من الناس يقصدون حمص ثم حماه لشراء تنكات القشدة الحموية يفاخرون بها في محيطهم، وغالباً ما كانوا يقصّون مربعات التنك هذه فيجعلونها مقاعد أمام بيوتهم لأجسادهم المتعبة أو يزرعون فيها شتلات الورود والحبق يصفونها عند مداخل البيوت. كانت الشتلات تموت ثم تزهر ثمّ تموت وتزهر من عام الى آخر عبر السنين وتعاقب الأجيال، وعندما يصدأ التنك ويثقبه العتق، يسيل الوحل أسود فوق الشبابيك والجدران.
كان يكفيني تذكّر المنظر ليدب الحنين حرباً هامساً لنفسي: والله تنكة الحبق أجمل من قوس النصر في غربة باريس وأقواس النصر في العالم. كان السؤال: متى ينتصر اللبنانيون على حروبهم لنعود؟