لي شغف برؤية الأشجار الهرمة المعمّرة وهي في خضرتها الدائمة، أو وهي متساقطة الأوراق، وقد امتدت بأعناقها الخشبية نحو فضاء الشارع متحررة من محدودية الأسوار، طويلة تماماً كما ينبغي لأشجار أمومية عتيقة عريقة مثل تاريخ من الجذوع والأغصان والورق النائم في الرياح.
تلك، بلا شك صورة شعرية بامتياز، غير أن الأشجار بهذه الرؤية البصرية المتأمّلة هي أيضاً فضاء تشكيلي دقيق ومنظم، كأنما صنعت بيد نحّات أو رسام.
أتأمّل الأشجار في كل مكان أحلّ فيه، وفي الترحال، تبقى صورة الشجرة الشعرية والتشكيلية، ثم تأخذ هذه الصورة بالتحوّل من كونها رسمة أو منحوتة إلى كونها لغة، ما هي لغة الشجر؟ ما تاريخ هذه اللغة؟ وما هو تكوين أبجدية هذه اللغة؟ هل هي أبجدية حرف، أم هي أبجدية صورة؟ أم أن لغة الشجر لا يعرفها أحد، ولا أحد يفك رموزها سوى الفلّاحين وقدامى المزارعين، أولئك أصحاب الفؤوس الذين يصبحون، أحياناً، حطّابين يقصّون بمناشيرهم الفولاذية الخشب، ويرسلون به إلى النجّارين المنتظرين عادة في المدن، ليحوّلوا الخشب إلى سرير أو أريكة أو تابوت. ما هو تاريخ الأشجار؟ لا أحد من الشعراء ولا الروائيين كتب هذا التاريخ، لأن الجغرافيا هي أصل الشجرة، وليس التاريخ، ولكي تكتب تاريخاً، عليك أولاً أن تعرف جغرافيته..الجبال، والمنحدرات، والأودية، والسهول، وامتدادات الأرض وأمومة التراب.. هذه كلها أصل الشجرة، ومنها أيضاً، يكتب التاريخ، ليس تاريخ الشجر وحسب، بل، وتاريخ الأوطان أيضاً، تلك الأوطان التي تُحَبّ أكثر، كلما كان فيها الكثير من الشجر.
قال لي شاعر شجريّ إنه وُلِدَ تحت شجرة تين، وكان يرضع حليبها المرّ، ويأكل ذلك الثمر الأسود الذي كان ينزّ منه عسل خفيف لا مثيل لطعمه وخفّته في الصباح، تحديداً الصباح، الاسم الثاني للتين. وقال شاعر قرويّ: ولدت تحت ليمونة شابة تعود في نسبها الشجري إلى أمي، ليمونة (تطرح) حبيبات صغيرة خضراء تشبه عينيّ أمي، وقد أسميتُ الليمونة (مريم)، ثم كبرت مثلما تكبر الطيور، وورثت الملوحة من الليمونة، لغتي مالحة، ونشيدي مالح.
وقال شاعر جبليّ، وُلِدتُ تحت سروة، فأحببت النساء الطويلات في مثل طول السرو، ورحت أكتب القصيدة التي تتماهى فيها أشجار السرو مع الغيوم، ولم أفلح لا في الكتابة، ولا في التماهي الذي أبحث عنه، ذلك أنه لا أحد يعرف سرّ السرو إلاّ تلك المرأة الطويلة بشعرها الأسود الطويل. ما حكاية الشعراء مع الأشجار؟، كأنما هي قصة التكوين، وما هي قصة التكوين، إنما هي الأمومة كما هي على فطرتها وفطرة التراب. وهكذا، يولد الشعراء، عادة، تحت الأشجار.
اقرأ (أشهد أنني عشت) لبابلو نيرودا، واقرأ جورجي آمادو، وتنسّم رائحة القرفة في بعض رواياته، وتتبع رائحة الجوّافة عند ماركيز، وانتظر دموع الصفصاف عند المنفلوطي، واقرأ قصة الزيتون، ورواية النخلة، وكيف تهاجر دوالي العنب مع الناس كما تهاجر الحقائب واللغات، وتأمّل أنوثة الرمّان، وذكورية السنديان والبلّوط، وتحمّم إذا أردت بورق الغار، واقترح عطراً لصاحبك مشتقاً من عبق الموز، وتريث قليلاً وأنت تمر بالقرب من غابة، واجلس واكتب وأنت ترى شجرة واحدة، وقد غطّت على غابة.
نجوت اليوم من لغة الصحفي، لأكتب بلغة المزارع.
[email protected]
مقالات أخرى للكاتب



