عرفت أطباء ومهندسين وتجاراً ومصرفيين أو موظفي بنوك شعراء، وقرأت قصائدهم، وأحببت بعضها، وبعضها الآخر ركنته جانباً، لكن، هذه المرة الأولى التي قرأت فيها شعراً لطيّار أردني شاب، حظيت بمجموعة شعرية له بعنوان «نخب هابيل».
كنت قبل أيام في زيارة لدار (الآن ناشرون وموزّعون) في عمّان، وأهداني مديرها العام الصديق الكاتب جعفر العقيلي، مجموعة كتب صدرت عن الدار، وكانت مجموعة «نخب هابيل» من بينها، أما الطيار الشاعر صاحب المجموعة فهو ماهر القيسي.
و الشعر شكل من أشكال الطيران حين يذهب الشاعر إلى تفعيل مخيّلته، ويستنفر طاقات البلاغة من مجاز إلى استعارة إلى كناية لكي يطير باللغة، وَيُسوّي له ريشاً يرتفع به إلى أعالي السماء. والشعراء، عموماً، قليلاً ما يجلسون على الأرض، وإذا جلسوا سرعان ما تدفع بهم غرائز الكتابة إلى المشي، أو فن المشي. إنهم مشّاؤون على الأرض، وطيور في الجوّ، وما من شاعر إلّا وكان فيه نزعة التشبّه بطائر يحبّه: صقر، أو نسر، أو عقاب..
تذكرت، وأنا أقرأ الشاعر الطيّار ماهر القيسي رواية «أرض البشر» للكاتب الفرنسي أنطوان دي سانت صاحب الكتاب الشهير «الأمير الصغير»، وكان طياراً عسكرياً كتب روايته تلك كما يبدو لي في الجوّ، ولكنه، مات على الأرض حين سقطت به طائرته خلال إحدى المهمّات القتالية. ولعلّه أوّل طيار يكتب رواية في مثل تراجيدية «أرض البشر»، غير أن فكرة الطيران الشعري، إن جازت العبارة، لم تكن موضوع روايته، بل الأرض هي فعلاً أرض البشر، وكل طيران إنما مآله إلى الأرض، أرض الحياة والناس والأشجار والماء، . حيث منها معاً يعجن الشعراء عناصر القصيدة.
أعود إلى ماهر القيسي الذي يكتب ما يشبه الخاطرة القصصية ولكن على شكل قصيدة نثر مصنوعة من الماء والغيم والحرير. قصيدة خفيفة على القلب. وأقول لك إنها قصيدة صديقة لي ولك كما لو أن رجلاً كتبها وتركها على طاولة في مقهى ثم ذهب، لأقرأها، ثم أبحث عنه.
أحببت قصائد هذه المجموعة الطائرة، وإذْ كنت تقمّصت ذئباً في سنوات بعيدة حين كنت في مثل عمر ماهر القيسي، وذلك في مجموعتي «ضجر الذئب»، وقد صدرت في أواسط تسعينات القرن العشرين، فقد رأيت صورتي في «نخب هابيل»، وكنت أرعى الخراف، وأعدّها في الليل، وذات ليلة لم أعدّ، ونمت، وكان ثمة ما يشبه الصوف حول فمي.
رأيت أيضاً في حياتي رجالاً يمسحون عن شواربهم شحوم الغداء، وكانت أمي أيضاً تنفض ثوبها من غبار الجلوس الطويل.
الكثير مما كتبه ماهر القيسي كنت عشته في حياتي على أرض البشر، ومثله، كانت القرية وجهاً آخر لي، وكنت ذئباً جريحاً يجوحُ في البعيد.
بداوة على ريفيّة على مدنية على طيران شعر ماهر القيسي، إنه شعره، وأغار منه.أغار أكثر أيضاً، فأنا لست طيّاراً، وعلى الأقل مع ذلك، أكتب الشعر.
[email protected]
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







