يسرا عادل
في خضمّ ديناميات الشرق الأوسط المتغيرة، تفرض عملية «الأسد الصاعد»، التي شنتها إسرائيل فجر الجمعة على منشآت عسكرية ومراكز أبحاث نووية داخل إيران، نفسها كبداية تحليلية لا مفرّ منها للأوضاع الآنية بالمنطقة. الضربة، التي أودت بحياة العشرات بينهم قادة كبار في الحرس الثوري وعلماء نوويون، كانت بمثابة رسالة نارية من تل أبيب لطهران. غير أن ما لفت الأنظار أكثر من حجم الهجوم، هو الموقف الأمريكي الحذِر والدقيق: دعم ضمني لإسرائيل، من دون تبنٍّ مباشر للعملية، في ما بدا أشبه بخطوة مدروسة للحفاظ على التوازن في لحظة حرجة.
فإدارة ترامب، التي شددت بعد الضربة على التزامها بأمن إسرائيل وتعزيز الردع في وجه التهديدات الإقليمية، اختارت أن تنأى بنفسها عن الانخراط المباشر في التصعيد. هذا النمط من «الدفاع غير المباشر» جديدٌ على واشنطن، لكنه في هذه اللحظة بالذات يبدو محمّلاً بدلالات إضافية، إذ إنّ أي خطوة أمريكية باتجاه أحد الأطراف، قد تُقرأ كتحوّل استراتيجي كبير، في وقت تتعمق فيه هشاشة الاستقرار الإقليمي.
وسط هذا المشهد، جاء غياب ثلاث شخصيات بارزة من فريق إدارة ترامب خلال الأسابيع الفائتة، ليشكّل علامة استفهام كبيرة حول اتجاه البوصلة الأمريكية: مورغان أورتاغوس، المبعوثة الخاصة إلى لبنان، ميراف سيرين، رئيسة قسم إيران وإسرائيل في مجلس الأمن القومي، وإريك تريغر، منسق شؤون شمال إفريقيا والشرق الأوسط. ليست الأسماء بالهامشية، ولا المناصب بالثانوية، بل مثلوا لسنوات مركز الثقل في رسم سياسة واشنطن في المنطقة، وخصوصاً في الملفات المرتبطة بإسرائيل وإيران.
مورغان أورتاغوس، كانت رأس الحربة في مقاربة واشنطن للملف اللبناني. خطاباتها العلنية وتصريحاتها الإعلامية تمحورت حول مطلب واحد لا يتزحزح: نزع سلاح حزب الله بشكل فوري وكامل، وإبعاده عن الحياة السياسية. ومع أن الواقع اللبناني بطبيعته عصيّ على التبسيط، فإن أورتاغوس اختارت الصدام المباشر على التفاهم المرحلي.
أما ميراف سيرين، فهي ابنة المدرسة الأمنية الإسرائيلية، حتى وإن ارتدت زيَّ المستشار الأمني الأمريكي. كانت تدفع دوماً نحو تشديد الخناق على إيران، وتعطيل أي مسعى دبلوماسي يمكن أن يعيد طهران إلى طاولة التفاوض بغير شروط مُذلّة. وفي كواليس صناعة القرار، عملت على الحوار العربي - الإسرائيلي، محاولة تذليل كافة العقبات.
وإريك تريغر، الآتي من خلفية بحثية في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، لم يُخفِ قناعاته المتجذرة بأولوية أمن إسرائيل في كل معادلة تخصّ المنطقة. رؤيته لم تتغير حتى بعد انتقاله إلى البيت الأبيض، أمن تل أبيب هو المعيار، وكل ما عداه تفاصيل يمكن تجاوزها. لم يَبدُ معنياً بموازين القوى المحلية أو بتعقيدات المجتمعات العربية، بل عمد إلى تصدير رؤى استراتيجية تستنسخ رواية واحدة دون تعددية.
لكن حين تغادر هذه الشخصيات دفعة واحدة، يُفتح الباب لتأمل خلفيات القرار. فبعيداً عن التفسيرات الإدارية، يُمكن قراءة هذه الإقالات، التي سبقت بأسابيع الضربة الإسرائيلية، كجزء من إعادة تموضع أمريكي محسوب.
هذا التوقيت بالذات يجعل من التغييرات الوظيفية رسالة سياسية غير مباشرة: دعم الحلفاء لا يعني تفويضاً مطلقاً، والانحياز في الملفات لا يساوي التخلي عن أدوات التهدئة والدبلوماسية. فكل خطوة أمريكية تجاه أي طرف، خاصة في مشهد إقليمي متوتر إلى هذا الحد، قد تُفسَّر كتحوّل جذري في الموقف، أو كخندق جديد. لذلك، يبدو أن إدارة واشنطن تسعى إلى تخفيف الوجوه المرتبطة بإسرائيل، ليس لنقض التزاماتها الأمنية، بل لصياغة خطاب أكثر مرونة يُبقي على خطوط التواصل مع مختلف الأطراف.
وتأتي أسماء البدلاء المقترحين لتُغذي هذا التصور: جويل رايبورن، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، أو أن يضاف لتوماس باراك مهام لبنان مع مبعوثيته إلى سوريا، أو مسعد بولوس، صهر ترامب، الذي يملك خلفية اقتصادية واستثمارية أكثر من كونه خبيراً في الأمن والسياسة. هذه الترشيحات تطرح احتمال انتقال اللهجة الأمريكية من الصدام العسكري إلى أدوات أكثر نعومة: المال، التنمية، وإعادة الإعمار.
وبين سطور هذه التغييرات، تبرز تساؤلات أكثر عمقاً: هل تسعى واشنطن إلى تخفيف حدة لهجتها تجاه طهران، سعياً لفتح نافذة تفاوضية جديدة بعيداً عن تأثير الخطاب المتشدد السابق، أم أن الهدف الخفي هو ممارسة ضغط مضاد على حكومة بنيامين نتنياهو، التي كثيراً ما اتخذت خطوات أحادية دون تنسيق مع الحليف الأمريكي؟
في السياسة، لا يُستبعد أن يكون تقليم أظافر بعض الصقور جزءاً من محاولة لفرض توازن جديد، يمكّن واشنطن من استعادة دور الوسيط لا الوصي، والمراقب لا المتحيّز.
والسؤال الجوهري إذن: هل تُعيد واشنطن فعلاً حساباتها في الإقليم؟ وهل باتت ترى أن فرض الوقائع بالقوة لم يُنتج استقراراً، بل أفرز مزيداً من العنف والفراغ؟ أم أن التبديلات ليست سوى خطوة تجميلية، تحفظ النهج ذاته، لكن بوجوه أكثر مرونة؟
ما بين من غادروا ومن سيأتون، يتأرجح مصير العلاقة الأمريكية بالشرق الأوسط على خيط دقيق. واشنطن تدرك أن المنطقة لم تعد تقبل وصايات مطلقة، وأن اللاعبين الجدد من الصين إلى روسيا إلى الفاعلين الإقليميين باتوا أكثر تأثيراً. فهل تحاول الإدارة الأمريكية تفادي العزلة، بتعديل خطابها وتغيير ممثليها، أم أن ما نشهده ليس أكثر من مسرح إعادة توزيع أدوار؟
وفي هذا السياق، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تسير واشنطن نحو سياسة خارجية أكثر توازناً، أم أن الصقور سيعودون من باب خلفي؟