معايير الأمانة

00:57 صباحا
قراءة دقيقتين

في أحد المقاهي الصغيرة بجامعة نيوكاسل في بريطانيا، وضعت علبة تبرعات بجانب ماكينة تحضير القهوة، وكتب عليها أن المبلغ اختياري، يدفع بحسب ما يراه الطالب مناسباً مقابل كوب القهوة. فوق هذه العلبة، تم وضع صورة صغيرة في بعض الأيام لعيون بشرية، وفي أيام أخرى وضعت صورة لزهور. اللافت في النتائج أن متوسط المبلغ الذي تبرع به الأشخاص عندما كانت صورة العيون موضوعة كان أكثر بثلاثة أضعاف مقارنة بالأيام التي وضعت فيها الزهور.
هذه التجربة الغريبة، والتي نشرت في مجلة «رسائل البيولوجيا»، تسلط الضوء على ظاهرة مثيرة في السلوك البشري وهي أن شعورنا بأننا مراقبون، حتى وإن كانت مراقبة رمزية أو غير حقيقية، يجعلنا نتصرف بشكل أكثر أخلاقية وكرماً.
الظاهرة تعود إلى ما يعرف في علم النفس الاجتماعي بتأثير «نظرة العين» أو «eye cue effect»، وهي فكرة أن الإنسان، بحكم طبيعته الاجتماعية، يصبح أكثر التزاماً بالمعايير الأخلاقية عندما يشعر بأن تصرفاته قد تكون مرئية أو خاضعة للتقييم. من الناحية التطورية، كان للسمعة بين أفراد المجموعة أهمية كبيرة للبقاء، لذا تطور بداخلنا هذا الإحساس الخفي بأننا تحت المجهر الاجتماعي في كثير من الأحيان. هذه الفكرة لا تقتصر على المال أو التبرعات.
في دراسات أخرى، تبين أن الموظفين يصبحون أكثر التزاماً بالوقت إذا تم وضع صور أعين صغيرة قرب جهاز تسجيل الحضور، وأن الأشخاص يكونون أكثر حرصاً على إعادة عربة التسوق في المتاجر إذا شعروا بأن هناك من يراقبهم، حتى لو كانت الكاميرات وهمية أو لا تعمل.
ما يثير التأمل هنا أن هذا السلوك لا ينبع دائماً من وازع داخلي خالص، بل من شعور خارجي بالرقابة الاجتماعية، وهذا يفتح باباً مهماً للتفكير في كيفية تشكيل القوانين والأعراف المجتمعية، فهل نحن أخلاقيون لأننا نؤمن بما نفعل، أم لأننا نخشى تقييم الآخرين لنا؟
ربما لا يمكن فصل الدوافع تماماً، لكن ما يمكن قوله هو إن الإنسان يتجاوب بسرعة مع الإشارات، حتى البصرية منها، التي توحي بالرقابة أو الانتباه. هذه الطبيعة يمكن استثمارها في تصميم بيئات أكثر التزاماً، وأكثر ميلاً للسلوك الإيجابي، ليس فقط من خلال القوانين، بل من خلال إشارات صغيرة تذكّر الناس بأنهم ليسوا وحدهم.
في النهاية، لا يُشترط أن تكون الرقابة حقيقية أو صارمة لكي تحدث فرقاً في سلوكياتنا. أحياناً، مجرد شعورنا بأن هناك من يرانا، أو حتى يتخيل رؤيتنا، يجعلنا نتصرف بشكل أفضل. لعل الدرس الأعمق في هذا كله هو أن السلوك الجيد لا يحتاج دائماً إلى قانون يجبرنا عليه، بل إلى شعور داخلي بالمسؤولية ناتج عن وعينا بأننا لسنا وحدنا، وأن تصرفاتنا تعكس صورة المجتمع الذي ننتمي إليه.
[email protected]
www.shaimaalmarzooqi.com

عن الكاتب

مؤلفة وكاتبة وناشرة، قدمت لمكتبة الطفل عدة قصص، وفي أدب الكبار أنجزت عدة روايات وقصص قصيرة، ونصوص نثرية. حازت على عدة جوائز أدبية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"