عندما تصبح الحرية عبئاً خفياً

في كل صباح، يستيقظ كثير من الناس ليجدوا أنفسهم أمام سلسلة من القرارات الصغيرة: ماذا أرتدي؟ ماذا أفطر؟ أي طريق أسلك إلى العمل؟ وفي منتصف اليوم، تتوالى الخيارات: هل أردّ على هذه الرسالة الآن أم لاحقاً؟ هل أبدأ بالمهمة الصعبة أم الأسهل؟ في عصرنا الحديث، حيث تتوافر أمامنا خيارات لا محدودة في كل شيء تقريباً، بدأ كثير من الناس يشعرون بثقل لم يكن مألوفاً من قبل: ثقل القرار.
هذا الشعور يُعرف علمياً باسم «عبء القرار»، وهو ظاهرة نفسية تحدث عندما تتراكم على الإنسان قرارات متتالية، مهما كانت صغيرة، مما يؤدي إلى انخفاض جودة القرارات التي يتخذها لاحقاً. ومن الدراسات الشهيرة أيضاً التي تتناول هذا المصطلح، دراسة نُشرت في دورية علم النفس الاجتماعي، وفيها تم تحليل قرارات القضاة خلال جلسات استماع الإفراج المشروط. وُجد أن نسبة الموافقة كانت أعلى في الجلسات الصباحية، لكنها انخفضت تدريجياً مع مرور الوقت، وارتفعت مرة أخرى بعد فترات الراحة، ما يدل على أن القدرة على اتخاذ قرار عادل تتأثر مباشرة بالإرهاق الناتج عن كثرة القرارات.
في حياتنا اليومية، لا تختلف الصورة كثيراً. الشخص الذي يقضي وقتاً طويلاً في اختيار ملابسه صباحاً، ثم في الرد على عشرات الرسائل، ثم في التنقل بين مهام متعددة، قد يجد نفسه في نهاية اليوم عاجزاً عن اتخاذ أبسط قرار، أو يتخذ قرارات متسرعة وضعيفة. هذا ما يجعل بعض الشخصيات العامة، مثل مارك زوكربيرغ أو باراك أوباما، يتبعون عادات متكررة في لباسهم وطعامهم اليومي لتقليل عدد القرارات الصغيرة التي تستهلك طاقتهم الذهنية.
لكن المشكلة لا تكمن فقط في عدد القرارات، بل أيضاً في الضغط النفسي المرافق لها، خاصة عندما نربط بين القرار ومفهوم النجاح أو الفشل، فكلما اعتقدنا أن كل قرار سيغير مجرى حياتنا، زادت حيرتنا وترددنا، وارتفعت مستويات التوتر لدينا.
وليس الحل في تجنب اتخاذ القرارات، بل في تنظيمها. حين ندرك أن العقل مثل العضلة، يجب استخدام طاقته بحكمه، يمكننا أن نعيد ترتيب أولوياتنا، ونحدد طاقتنا للقرارات المهمة، ونبني روتيناً يخفف من ثقل الخيارات اليومية. كما يمكننا تفويض بعض المهام، أو وضع قواعد ثابتة لبعض الأمور المتكررة، لتبقى طاقتنا للقرارات التي تستحق التفكير العميق فعلاً.
الحرية في الاختيار واحدة من أعظم مزايا العصر الحديث، لكنها لا تكون نعمة كاملة إلا إذا أدركنا كيف نديرها، لأن القرارات ليست دائماً مقياساً للسيطرة، بل قد تكون أحياناً عبئاً خفياً يقتل طاقتك دون أن تشعر.
إن الاعتراف بوجود هذا العبء هو أول خطوة نحو تخفيفه، وتحويل طاقتنا إلى ما هو أكثر أهمية وفاعلية في حياتنا.
[email protected]
www.shaimaalmarzooqi.com