أحمد مصطفى
ابتكر الاستراتيجي والسياسي الأمريكي من أصل بولندي زبيغنيو بريجنسكي مصطلح «الصراع الممتد منخفض الحدة»، لكنه لم يطبّق أمريكياً إلا بعد فترة، وأتصور أن أول تطبيق واضح له كان في الصومال منتصف التسعينات من القرن الماضي. كان بريجنسكي عالماً سياسياً بالفعل، خدم مستشاراً للرئيس ليندون جونسون نهاية الستينات ثم مستشار الأمن القومي في عهد كارتر من نهاية السبعينات إلى مطلع الثمانينات.
كانت فترة وجود بريجنسكي ضمن السلطة في واشنطن في عز الحرب الباردة، وكانت أغلب الصراعات حول العالم هي «نموذج مصغر» بشكل أو بآخر لصراع القوتين العظميين وقتها: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. بنهاية الحرب الباردة أواخر الثمانينات كانت هناك بعض النزاعات في العالم يغذيها تصور استمرار صراع القوتين. لكن مع قرب نهاية القرن كانت الولايات المتحدة تفردت بأنها مركز القوة الوحيد في النظام العالمي الذي يمر بمرحلة تغيير.
صحيح أن منطقة القرن الإفريقي لم تخلُ يوماً من النزاعات، وكانت دائماً على «صفيح ساخن» كما يقال منذ ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الإيطالي والفرنسي والبريطاني. لكن ما حدث في الصومال نحو منتصف التسعينات مع وجود القوات الأمريكية ثم انسحابها كان حالة نموذجية لفكرة بريجنسكي النظرية. وتقضي الفكرة بإشعال صراع بلا كل عوامل إطالته من دون أن ينتهي بنتيجة حاسمة، لكنه يظل محصوراً في قوته ومداه.
منذ ذلك الحين لم تبرأ الصومال من الحروب الداخلية حتى استوطنتها ميليشيات إرهابية تتبع القاعدة أو داعش أو غيرها من الإرهابيين المتسربلين بالدين. ورغم محاولات «بناء دولة» في السنوات الأخيرة إلا أن الصراع في الصومال لم ينتهِ.
مع اختلاف طبيعة الوضع وظروفه يمكن سحب نظرية بريجنسكي تلك على أغلب الصراعات في المنطقة، بدءاً بما حدث واستمر في أفغانستان حتى ما يجري لإيران الآن مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان.
بالطبع لا يمكن إلقاء تبعة اشتعال واستمرار تلك الصراعات على عوامل خارجية فحسب، وإراحة البال بالقول إن «الاستعمار هو السبب». فهناك دائماً عوامل داخلية وصراعات قوى داخلية ومحلية تطلق شرارة الصراع وتُذكيه ليستمر. لكن تظل فكرة بريجنسكي مثل المبدأ الاستعمار البريطاني القديم المتجدد: فرِّق تسُد.
بغضّ النظر عن نتيجة الصراع العسكري الحالي بين إسرائيل وإيران، فمن شبه المؤكد أن إيران ستخرج منه في وضع ليس كسابقه. ربما لا تصبح دولة ممزّقة تشتعل فيها النيران غير الكثيفة مثل دول أخرى في المنطقة، لكنها في النهاية ستنضم إلى طوق النار الذي يكاد يكتمل.
بدأ الطوق من أفغانستان، حيث ظهرت التنظيمات الإرهابية برعاية أمريكية في البداية كتنظيم القاعدة ثم امتدت نقاطه عبر العراق وسوريا ولبنان وليبيا ثم أخيراً السودان. وفي كل تلك النقاط لا تغيب بؤر الإرهاب التي كانت وقوداً يُذكي الصراعات الممتدة منخفضة القيمة كما طرح بريجنسكي نظرياً.
إذا أضيف القرن الإفريقي واليمن، وبقايا القاعدة وداعش، يكون طوق النار تقريباً اكتمل – حتى وإن كانت نيراناً خافتة أو حتى راكدة تحت الرماد. فعلى الأرجح قد لا تكون إيران نقطة نيران ساخنة داخلياً على المدى الطويل لكن نهاية الصراع الحالي ستتركها على الأغلب ترقد على رماد ساخن.
يحيط هذا الطوق بدول الخليج ومصر والأردن، التي تشكل الآن قلب المنطقة المستقر في محيط مشتعل. من المنطقي أن تسعى هذه الدول المستقرة إلى إطفاء تلك الصراعات المحيطة بالشكل الذي يضمن مستقبلاً أفضل لشعوب المنطقة كلها. لكن ليس دائماً تأتي الرياح بما تشتهي السفن، خاصة إذا كانت بعض السفن تبحر مسترشدة بأيديولوجيا متحجرة أو توجهات غير تنموية.
ما كادت المنطقة تفيق من اضطرابات مطلع العقد الماضي، التي أدت إلى سقوط أنظمة وحروب أهلية ما تزال نيران بعضها إما مشتعلة أو تحت الرماد، حتى اندلعت أكثر من شرارة أذكت نيراناً جديدة ما زالت مستمرة. وللأسف تظل هناك عوامل محلية وإقليمية تعمل كوقود لتلك الصراعات، ليس فقط وجود جماعات مثل تنظيم الإخوان وجماعاته الإرهابية، ولكن أيضاً بقايا تيارات سلفية دينية وسياسية. كل هذا يجعل من الصعب على الدول المستقرة إخماد نيران تلك «الصراعات الممتدة منخفضة الحدة» التي يشملها طوق النار حولها.
مع ذلك، وكما يرى الناجحون في الأزمات فرصة للإنجاز وتحقيق ما هو أفضل بدلاً من التباكي والاستسلام لليأس، تظل الدول في قلب المنطقة مؤهلة لاستكشاف المستقبل الأفضل لشعوبها. وكما أن ما يسعى العالم إليه من «نظام عالمي جديد» منذ نهايات القرن الماضي لم يكتمل بعد فإن تصوراً لمستقبل المنطقة يمكن أن يكتمل بالخروج من هذا الطوق واعتماد استراتيجية تعاون وتنمية.
كان يحلو للمفكرين والمعلقين منذ ستينات القرن الماضي القول بأن منطقتنا هي في قلب صراعات الحرب الباردة، ثم بعد ذلك اعتبار المنطقة نموذجاً مصغراً لفشل النظام العالمي الجديد ما بعد الحرب الباردة. لعل الأزمات الحالية تكون بداية أن تصبح المنطقة «نواة» نظام عالمي جديد يخلو من تلك الصراعات الممتدة منخفضة الحدة. على أن يكون التنافس فيه على الإنجاز لصالح شعوب المنطقة والبشرية كلها.