الحاسة السادسة

00:28 صباحا
قراءة دقيقتين

هل سبق أن مررت بمكان معين، أو فتحت عبوة عطر قديم، وفجأة وجدت نفسك مستغرقاً في ذكريات قديمة
لم تفكر فيها منذ سنوات؟ ربما عادت إليك لحظة من طفولتك، أو ذكرى عابرة من يوم دراسي، أو حتى ملامح بيت جدتك، فقط لأنك شممت رائحة مألوفة. هذه الظاهرة ليست خيالاً أدبياً، بل حقيقة علمية تؤكد أن لحا سة الشم علاقة وثيقة بالذاكرة والعاطفة، تتجاوز في تأثيرها الحواس الأخرى.
في دراسة نشرت بمجلة Chemical Senses، وهي مجلة علمية متخصصة بفهم الأسس البيولوجية والنفسية لحواس التذوق والشم، تمّ إجراء تجربة على مجموعة من المشاركين لاستكشاف العلاقة بين الروائح والذاكرة العاطفية. طُلب من المشاركين تذكر أحداث من حياتهم بعد تعرضهم لروائح محددة، وتمّت مقارنة هذه النتائج بأشخاص طلب منهم التذكر بعد مشاهدة صور أو سماع كلمات فقط. وجدت الدراسة أن الذكريات التي استحضرت عبر الروائح، كانت أكثر وضوحاً من حيث التفاصيل، وأكثر كثافة من الناحية العاطفية.
الروائح لا تعيد الذكريات فحسب، بل تعدل المزاج والسلوك أيضاً. في تجارب أجريت في بيئات عمل مختلفة، وجد أن الموظفين الذين عملوا في أماكن تفوح فيها روائح منعشة مثل اللافندر أو الليمون، كانوا أكثر هدوءاً وأقل عرضة للتوتر، مقارنة ببيئات عديمة الرائحة. وفي متاجر البيع بالتجزئة، ثبت أن الروائح العطرية الهادئة تزيد من مدة بقاء الزبائن، وتؤثر في قراراتهم الشرائية.
لكن التأثير ليس دائماً إيجابياً، فبعض الروائح قد تثير مشاعر قلق أو حزن إذا ارتبطت بتجربة مؤلمة في الماضي. وهذا ما يجعل الروائح أداة بالغة الحساسية في تحفيز المشاعر، لدرجة أن بعض المعالجين النفسيين يستخدمون الروائح كجزء من علاج حالات اضطراب ما بعد الصدمة، لمساعدة المرضى في إعادة معالجة مشاعر قديمة ضمن بيئة هادئة..
في حياتنا اليومية، قد نغفل عن قوة الرائحة، ونظن أنها مجرد جانب ثانوي من الحواس، لكن حين ندرك أن للعطر أو الرائحة قدرة على استدعاء مشاعرنا القديمة، وتشكيل حالتنا النفسية، سنبدأ في التعامل معها بطريقة أكثر وعياً، فاختيار رائحة مألوفة قبل لقاء مهم، أو استخدام عطر معين أثناء الدراسة، يمكن أن يساعدانا في ترسيخ حالة ذهنية معينة أو تسهيل استحضارها لاحقاً.
ربما لا نملك التحكم الكامل فيما نشمّ أو متى نتعرض له، لكننا نملك حرية اختيار كيف نربط هذه الروائح بتجاربنا. ولعل أجمل ما في الأمر أن الرائحة، رغم بساطتها، يمكن أن تكون جسراً خفياً بين لحظات الحاضر وذكريات الماضي، تلامس شيئاً داخلنا لا تستطيع الكلمات وصفه، وتوقظ فينا مشاعر كنا نظنها قد انطفأت منذ زمن.
[email protected]
www.shaimaalmarzooqi.com

عن الكاتب

مؤلفة وكاتبة وناشرة، قدمت لمكتبة الطفل عدة قصص، وفي أدب الكبار أنجزت عدة روايات وقصص قصيرة، ونصوص نثرية. حازت على عدة جوائز أدبية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"