الحسين الزاوي
تمثل الديمغرافيا في المرحلة الراهنة أبرز العناصر المؤثرة بالنسبة للحسابات الجيوسياسية للدول على المديين المتوسط والطويل، إذ إن المعطى السكاني يمثل الرهان الأبرز بالنسبة للسياسات الداخلية والخارجية للدول، إذ غالباً ما تعجز الحكومات عن التحكّم في معدّل الخصوبة داخل مجتمعاتها، الأمر الذي يجعلها تواجه وضعيات يصعب التعامل معها، فإما تكون نسبة النمو السكاني أقل من حاجة الاقتصاد إلى الأيدي العاملة النشطة، وإما يتجاوز هذا النمو قدرة الاقتصاد على توفير مناصب عمل لآلاف العاطلين عن العمل كما يحدث في الدول الإفريقية التي تمتلك معدلات خصوبة عالية ومنظومات اقتصادية هشة، ونخباً سياسية غير قادرة على تحقيق التوازن المطلوب بين نسبتي النمو السكاني والاقتصادي.
يشير أوبير فيدرين في قاموسه إلى هذا الخلل الحاصل في نسبة الزيادة السكانية بين الشمال والجنوب بقوله: «في 2050 من بين 10 مليارات من سكان الكرة الأرضية، بحسب بعض التوقعات المتشائمة، سيكون هناك دائماً نحو 500 مليون من سكان أوروبا في مقابل 2,5 مليار إفريقي إذا لم تشهد إفريقيا ما يسمى ب«الانتقال الديمغرافي»، وسيزداد تقلص سكان الدول الغربية مقارنة بالهند والصين وإفريقيا. ويفرض انعدام التوازن السكاني بين الشمال والجنوب إضافة إلى التقلبات المناخية في الجنوب، تحديات كبرى على المستويات الهوياتية والثقافية والحضارية بالنسبة للعلاقة المتوتّرة أصلاً بين الغرب ودول الجنوب الكبير».
ويمكن القول، إن التراجع السكاني في الشمال، يدفع الدول الغربية الكبرى لاسيما ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، إلى تبنّي سياسات تحفيزية لمواطنيها لتشجيعهم على تحقيق خصوبة أكبر، كما أن هناك دولاً في شرق أوروبا مثل روسيا تقدِّم مساعدات سخية للعائلات لدفعها إلى إنجاب عدد أكبر من الأطفال، ويرى المراقبون أن الحرب في أوكرانيا دفعت الكرملين إلى إعادة تقييم سياساته بشأن مستوى النمو السكاني، نظراً لتأثير ذلك، بشكل كبير، في الأمن القومي الروسي، من منطلق أن فيدرالية روسيا تعدّ أكبر دولة في العالم من حيث المساحة الجغرافية، لكن تعدادها السكاني يظل متواضعاً إلى حد كبير، ويطرح أمامها مشاكل حقيقية من أجل زيادة عدد أفراد جيشها.
ويرى المختصون في علم السكان أن انخفاض عدد السكان سيكون حتمياً بما في ذلك في دول الجنوب، ليس الآن ولكن بعد مرور 30 سنة، وقد جاء لأول مرة تقرير للأمم المتحدة صدر في يوليو/ تموز من سنة 2020 ليدعم توقعات هؤلاء المختصين، فقد أفاد هذا التقرير بأن عدد السكان سيكون أقل من المتوقع أي 9,5 مليار سنة 2050 عوض 10 مليارات، وسيبدأ التراجع السكاني بشكل فعلي بداية من سنة 2100.
يذهب فريدريك أنسل في قراءة موازية، إلى أنه لا مجال للحديث عن الجيوسياسة دون التطرّق إلى الديمغرافيا، فقد كان الحكام يهتمون دائماً بعدد الناس الذين يقعون تحت مسؤوليتهم، فالحاكم الذي يملك عدداً أكبر من الرعايا مقارنة بجاره في البلد المنافس، يمكنه أن يجنّد في زمن الحرب عدداً أكبر من الجنود مقارنة بمنافسه، ويمكنه في زمن السلم أن يعتمد على عدد أكبر من المزارعين والعمال والحرفيين والتجار لتوفير كمية أكبر من البضائع. ونتحدث الآن في عصر السوق بشكل أكبر عن المنتجين والمستهلكين، وغالباً ما يجري الاتحاد بين مجموعة من الدول من أجل رفع طاقة الإنتاج وتشكيل قاعدة أكبر من المستهلكين، ومن ثم فإن دولاً مثل الصين والهند تمتلك أفضلية من الناحية النظرية، لكونها تتوفر على عدد كبير من المستهلكين، ويفسِّر هذا الانشغال مسار تشكيل الاتحاد الأوروبي، وتجمعات أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية.
ونلاحظ أيضاً وجود دول في شرق ووسط أوروبا تعاني من مشكلة سكانية مضاعفة، فهناك انخفاض في عدد المواليد حيث لا تتجاوز النسبة الإجمالية 1,5 طفل لكل امرأة في بولندا، ويترافق هذا التراجع في الخصوبة مع حركة هجرة واسعة لشباب دول شرق القارة نحو دول الغرب، الأمر الذي جعل قرى كاملة في هذه الدول تتحوّل إلى مناطق أشباح.
أما بالنسبة للصين فإن الوضع السكاني يشهد تحولاً دراماتيكياً، فبعد أن كانت بكين رائدة في مجال النمو الديمغرافي، فإن سياسة الطفل الواحد جعلتها تتراجع من حيث معدل الخصوبة خاصة في العقد الأخير، إذ إنه ورغم تشجيع السلطات الصينية للعائلات على الإنجاب إلا أن الأرقام تشير إلى انخفاض مستمر في عدد عقود الزواج بسبب ارتفاع أسعار العقارات، وبالتالي فإن تراجع عدد الزيجات أدى بدوره إلى تراجع نسبة الإنجاب، كما أن الأفراد المتزوجين اكتسبوا عادة تشكيل أُسرٍ صغيرة لا يتجاوز عدد أطفالها اثنين، لأنه من الصعب التخلي عن ثقافة اجتماعية مكتسبة والعودة إلى ثقافة عتيقة.
وعليه فإنه وسواء تعلق الأمر بزمن الحروب أو بزمن السلم والتنافس الاقتصادي، فإن معالجة مشكلة السكان تخضع لمقاربتين مختلفتين، فالدول الأوروبية مثل ألمانيا تحاول استقبال عدد معتبر من المهاجرين المؤهّلين مهنياً من أجل المحافظة على تفوقها الصناعي، وتسعى الصين جاهدة من أجل مواجهة ارتفاع معدلات الشيخوخة، بينما تكافح الدول الإفريقية من أجل كبح جماح نموّها السكاني المهول.