يحيى زكي
كثيرة هي الكتابات التي صدرت في العقود الأخيرة وترصد تراجع الحضارة الغربية، منها ما يركز على العوامل الثقافية والعلمية، ومنها ما يهتم بالجوانب الاقتصادية والسياسية. وما يميز كتاب المفكر الفرنسي إيمانويل تود «هزيمة الغرب» أنه يتتبع أثر عاملين فارقين، أدى تراجعهما إلى أزمة طاحنة يعيش فيها الغرب الآن، وستتزايد وتيرتها خلال العقود المقبلة، وهما ضعف القيم الدينية البروتستانتية، وتراجع الطبقة الوسطى.
ربما يكون تود من المفكرين القلائل الذين أشاروا إلى دور العامل الديني في الحضارة، وفي حالة الحضارة الغربية كنا نجد دائماً إشارات إلى دور البروتستانتية في نشأة وازدهار الرأسمالية، ولكنه دور كنا نعثر عليه في كتب علم الاجتماع منذ المفكر الاجتماعي الشهير ماكس فيبر. فوفق هذا الأخير أثّرت البروتستانتية بقوة في البلدان الرأسمالية، فقد شجعت التعليم ونشرت القراءة والمعرفة، ومنحت الأولوية في الحياة للعمل، وحررت الفرد من الكثير من العوائق التي كانت تحدّ من حريته، بل إن فيبر ربط ميكانيكياً بين الرأسمالية والبروتستانتية، فالأولى وصلت إلى الذروة في بلدان تعتنق المذهب البروتستانتي: ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة. هذه القيم الدينية، بحسب تود، تتراجع الآن ومعها فإن الغرب مقدم على أزمة طاحنة.
ما يستوقف قارئ الكتاب أيضاً التراجع الذي تعانيه الطبقة الوسطى، وإذا كانت أزمة البروتستانتية خاصة بجزء مهم من الغرب، فإن مشاكل الطبقة الوسطى أصبحت عالمية، بمعنى أنها تهم البشر كلهم، مع ملاحظة أن الكثير من مفكري الدول النامية قد أشاروا إلى تلك المشاكل في السابق، وهنا مع تود ربما نسمع للمرة الأولى عن مشاكل طاحنة لتلك الطبقة في العالم الأول.
مع انهيار المعسكر الاشتراكي وهبوب رياح العولمة وما صاحبها من تحولات اقتصادية، تأثرت الطبقة الوسطى في البلدان النامية بشدة، وأصدر البعض كتباً بعناوين لافتة وكأنهم يودّعون تلك الطبقة. فعدم تعويل الدولة على القطاعات الاقتصادية الحكومية وسياسات فتح الأسواق وعولمة السلع والبضائع والتضخم..كلها خطوات أضرت سلباً ب«مساتير الناس»، أو الطبقة الوسطى بالتعبير التراثي العربي، وألحقت العديد من شرائحها بالطبقات الدنيا، ومما جعل الصورة أكثر مأساوية الإعلام الذي صاحب العولمة وبشّر بوعودها وطرائق حياتها، ما خلق حالة من الاستقطاب الحاد في بعض البلدان بين فئات تملك كل شيء وتتجاوب مع العصر وقوانينه وتسلك وفق الحياة الجديدة، وفئات أخرى معدمة، وبينهما شريحة ضئيلة لم تعد قادرة على ضبط الأداء المجتمعي.
لم تكن الضربات التي تعرضت لها الطبقة الوسطى اقتصادية وسياسية وحسب، ولكن كان هناك العنصر الثقافي كذلك، فالتكنولوجيا الحديثة وتوابعها من مواقع التواصل «ميعت المجتمع»، إن جاز التعبير، فكل البشر على تلك المواقع يقدمون صورة واحدة للحياة تضيع فيها الملامح الطبقية، ويقدمون أيضاً قيماً مسطحة، بعيداً عن تلك القيم الموزونة التي عُرفت بها الطبقة الوسطى تاريخياً.
إن التنبيه في كتاب تود لا يخصنا إلا في جانب الطبقة الوسطى، والتي تعاني في بلادنا العربية أيضاً، وهي طبقة يؤدي تراجعها إلى ما لا يحمد عقباه.