رحلة الفكرة

22:48 مساء
قراءة دقيقتين

رضا السميحيين

منذ أن بدأ الإنسان بنقش أفكاره على الحجر والطين، بدأت رحلة الفكرة في البحث عن طريقها إلى الآخر، ومع تحول تلك النقوش إلى كلمات قابلة للتداول بعد اختراع الورق، اصبح المفكر صانعا للتاريخ ومحركا للعقول، وبلغت الرحلة اوجها مع اختراع المطبعة، حيث بدأت الفكرة تسافر أسرع، وأصبح للكتاب صوت في المدن والقرى، وحين جاءت الصحف والمجلات لاحقا، اتسعت دائرة التأثير، وتحول ما يكتب إلى سلاح فكري، يتجاوز المكان واللحظة.
لكن الانفجار الحقيقي في وسائل نقل الأفكار جاء مع التكنولوجيا الرقمية في السنوات الاخيرة، التي قلبت الموازين، ونقلتنا من الورق إلى الشاشة، من المقال الطويل إلى التغريدة، ومن الفكرة المتأنية إلى «الترند» العابر، في تحول مس جوهر العلاقة بين صانع الفكرة والمتلقي، وفرض على الجميع إعادة النظر في الأدوار والوظائف في ضوء هذه الانتقالة الرقمية.
نلاحظ في الوقت الراهن، كيف غيرت الوسائل الحديثة من طبيعة الصياغة الثقافية بحد ذاتها، فالكلمة وحدها حاليا لا تكفي، ويجب أن تغلف بلغة وسائطية تراعي شكل المنصات وسرعة التفاعل ومزاج الجمهور، وهنا لا بد من أن نعترف بأن «المثقف» الذي يتجاهل هذه المعادلة يخاطر بأن يصبح صوته معزولا، مهما كانت أفكاره عميقة وضرورية.
لابد لنا من إدراك أن المثقف في هذا المشهد الرقمي، لم يعد محصورا في النخبة أو وراء أبواب المراكز الثقافية، اذ يتحتم عليه أن يطل من تلك النافذة الرقمية، ويخاطب جمهورا جديدا يتميز بأنه أكثر تنوعا وأقل صبرا، جمهورا اعتاد التمرير السريع والقراءة بالمجزوء، ولا يعني ذلك بالضرورة أنه أقل وعيا، لكنه حتما أكثر تطلبا من حيث الصياغة واللغة والوسيط.
وهنا يمكننا القول ان»التكيف» مع الوسيط الجديد، لا يعني على كل حال أن يساير المثقف سطحية المحتوى أو أن يساوم على عمقه، ولكن المطلوب هو أن يجيد توصيل فكرته بأدوات العصر، من دون تفريط في القيمة، وهذا لا يضعف من قيمة المثقف، بل يؤكد أن الجمهور لا يزال متعطشا للمعرفة، متى ما قدمت له بلغة زمنه.
التحدي الأكبر اليوم هو أن تغرينا كثرة هذه الوسائل بالكم وتنسينا الكيف، وقد يسعى البعض خلف الانتشار على حساب الدقة، وهنا يبرز دور المثقف الحقيقي، في ظل هذه الفوضى المرتبة، باعتباره القادرعلى ابقاء بوصلته الفكرية مشتعلة، ويمارس دوره، مهما بدا له أن صوته خافتا وسط هذا الفضاء الرقمي المزدحم بالضجيج.
بلا شك حاجة الإنسان إلى التفكير لم تتغير، لكن وسائل نقل الأفكار قد تغيرت، والمطلوب من المثقف اليوم هو الاستثمار في هذه الوسائل لا أن ينكفئ عنها، من خلال إدراكه لحتمية تغير الأدوات، واتساع المنابر رافعا راية العقل في وجه السائد والسطحي.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"