محمد خليفة
العدالة أساس الحرية والنور، والعدل قضية مركزية في الكون. لقد ظلت الإنسانية دهوراً طويلة تدور في هذا الفلك وفق تصور شامل عن الحياة والإنسان، لكن الفجوة بين الحداثة والإيديولوجيا، والتي خرجت من الفضاء الفكري وتجاوزت الأخلاق المضمنة في سياق الخير والشر إلى أخلاقية جديدة عدمية تتربص بالإنسان دون رحمة.
نظام الحياة لا يستقيم دون العدل الذي يشمل كل جوانب الحياة الإنسانية ومقوماتها، لذلك حدد القانون الدولي الجريمة بأنها تلك التي تقوم بها دولة ضد دولة، أو دول أخرى أو أفراد أو جماعات، مثل: جريمة الغزو والعدوان والإبادة الجماعية التي تقوم بها دولة ضد شعب دولة أخرى، أو تقوم بها جماعة عرقية أو دينية ضد جماعة عرقية أو دينية أخرى.
وكان مفهوم الجريمة بمعناه الدولي غير موجود قبل القرن العشرين، لكن في هذا القرن اكتملت المفاهيم ونضجت السياسات واتضحت حدود الدول، وكان أول استخدام لمفهوم المحاكمة الدولية، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، عندما ضمّنت الدول المنتصرة (بريطانيا وفرنسا) في معاهدة فرساي المفروضة على ألمانيا، بنداً يتضمن إنشاء محكمة دولية لمحاكمة الإمبراطور الألماني ويلهلم الثاني، لكن لم يتم تنفيذ هذا البند خوفاً من عودة ألمانيا إلى الحرب. وتم السماح للإمبراطور بالذهاب إلى هولندا للإقامة فيها كلاجئ.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عمل المنتصرون (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق وبريطانيا) على عقد محاكمات لمحاكمة من أُطلق عليهم «مجرمو الحرب في ألمانيا واليابان»، وهؤلاء كانوا من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الذين وقعوا في الأسر. حيث أقيمت محكمة في قصر العدل بمدينة نورنبرغ الألمانية المحتلة عام 1946، كما أقيمت محكمة مماثلة في مدينة طوكيو المحتلة. لكن لا يمكن النظر إلى هذه المحاكمة، سواء في نورنبرغ أو في طوكيو، على أنها محاكمة عادلة، بل هي تمثل عدالة المنتصر فقط، وليس تطبيق العدالة بمفهومها الشامل، وكان الهدف منها هو التشفي والانتقام من هؤلاء القادة المنهزمين.
لو كان المنتصرون جادّين في تطبيق العدالة، وإنصاف كل مظلوم من ظالمه، لعقدوا محاكمات لمحاكمة الذين تسببوا في قتل ستة ملايين من الشعب الألماني من خلال القصف العشوائي على المدن الألمانية العامرة بالسكان، وهذا ممنوع في قوانين الحرب، ويتنافى مع قيم العدل، حتى لقد تم تدمير مدينة بوتسدام بشكل كامل، وقتل جميع سكانها البالغ عددهم 50 ألف إنسان، وتم طرد الألمان من دول أوروبا الوسطى مثل: إقليم تشيخيا الذي هجر معظم سكانه، كما هجر سكان مقاطعة دانزيغ على بحر البلطيق، وأعطيت لبولندا، وتم تهجير سكان سيليزيا الشرقية، وأعطيت للاتحاد السوفييتي السابق وأصبح اسمها «كالينين غراد» وهي تقع أيضاً على بحر البلطيق. وخلال عمليات التهجير التي كانت تتم تحت أعين الدول المنتصرة، مات عشرات آلاف من الألمان جراء الجوع والبرد والتعب. وأيضاً تم إلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتين في اليابان، ولم تعقد محكمة للسماح للمتضررين ولذوي الضحايا بالمطالبة بالتعويض.
وكانت يوغسلافيا دولة صناعية متقدمة في وسط أوروبا، وعندما انهارت الكتلة الشيوعية، ظلت هذه الدولة قائمة لم يمسسها سوء لأنها كانت تتمتع باستقلال سياسي واقتصادي وعسكري كامل عن الاتحاد السوفييتي، لكن حلف الناتو قرر تحطيمها، فتم إيجاد بؤر خلاف بين البوشناق والصرب والكروات في البوسنة، وتحول الأمر إلى حرب أهلية شرسة حاولت السلطات في بلغراد احتواءها، لكن من دون جدوى. وبعد انهيار الدولة، قامت دول الهيمنة في مجلس الأمن بإصدار قرار بإنشاء محكمة جنائية ليوغسلافيا السابقة، من أجل محاكمة ما يسمى «مجرمو الحرب» وهي المحكمة التي قيّد إليها الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش بعد اتهامه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وكانت لجنة القانون الدولي قد بدأت أعمالها التحضيرية، لإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة، وفي مؤتمر دبلوماسي عقد في روما، عام 1998، تم توقيع نظام روما الأساسي المُنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، وقد انضم إلى هذه المحكمة حتى الآن 124 دولة، لكنها ومنذ أن بدأت أعمالها عام 2005 اتضح أنها غير ذات فاعلية، فأقصى ما يمكن أن تقوم به هو أن تصدر مذكرة اعتقال بحق مسؤول متهم من قبلها في هذه الدولة أو تلك، وأن ترسل تلك المذكرة إلى الدول المصدّقة على الاتفاقية من أجل العمل على اعتقال الشخص المطلوب، من دون أن يكون لديها قدرة على وقف عدوان دولة على دولة أخرى أو عدوان دولة على شعب آخر، كما يحدث هنا وهناك في العالم، وتحت أعين الجميع.
والحقيقة هي أن العدالة الدولية لا تزال هي عدالة المنتصر فقط، ولايزال القرار الدولي بيد دول مجلس الأمن أو ما يسمى «الخمسة الكبار»، فهذه الدول فقط تطبق القانون وفق ما تراه مناسباً لها، وليس ما يفرضه القانون الدولي.