في كثير من الأحيان نفترض أن التقدم في العمر يرافقه نضج في التفكير والسلوك، لكن التجارب الواقعية كثيراً ما تكشف غير ذلك، فكم من شخص تجاوز الأربعين ولا يزال يتعامل بأنانية، أو يتجنب تحمل المسؤولية، أو يعجز عن فهم ذاته ومشاعره. في المقابل، قد نجد شباباً في مقتبل العمر يتحلون بحكمة واتزان يتجاوزان أعمارهم بكثير، فما الذي يصنع النضج إذًا؟ وهل هو مسألة سنوات، أم نتيجة تجربة ووعي؟
علم النفس يفرق بين «النضج العمري» و«النضج النفسي».. الأول يأتي بشكل تلقائي مع مرور الوقت، بينما الثاني يتطلب جهداً ذاتياً ووعياً متراكماً، فالنضج النفسي لا يتعلق فقط بكيفية التعامل مع الآخرين، بل يبدأ من الداخل، من طريقة فهم الشخص لنفسه، ووعيه بمشاعره، واستعداده لتحمل تبعات قراراته.
في دراسة تم نشرها في «مجلة نمو البالغين»، وهي مجلة علمية محكمة تعنى بالأبحاث النفسية والاجتماعية المتعلقة بتطور الإنسان في مراحل الرشد والبلوغ، تمت مقابلة مجموعة من الأفراد من أعمار مختلفة وسئلوا عن تجاربهم في اتخاذ القرارات والتعامل مع الصراعات. تم ملاحظة أن من وصفوا أنفسهم بأنهم «ناضجون نفسياً» لا يختلفون كثيراً في أعمارهم، لكنهم يشتركون في خصائص مثل: المرونة في التفكير، القدرة على رؤية الأمور من وجهات نظر متعددة، والقدرة على التراجع عند الخطأ بدون الشعور بالانكسار..
غالباً ما يخلط بين النضج والنظرة الجادة للحياة، فيعتقد أن الناضج هو من يتخلى عن التسلية، أو يبتعد عن العفوية، لكن الواقع أن النضج ليس نقيضاً للمرح، بل هو التوازن بين المتعة والمسؤولية، وبين التعبير عن الذات واحترام الآخر. الناضج هو من يفهم أن الرفض لا يعني الإهانة، وأن الخلاف لا يلغي الاحترام، وأن العواطف، رغم قوتها، لا يجب أن تتحكم في القرارات المصيرية..
ومن أهم مؤشرات النضج النفسي: الاعتراف بالخطأ، القدرة على قول «لا» دون الشعور بالذنب، التعامل مع الانتقادات بهدوء، وتقبل تغير الناس والظروف دون التعلق بالمثالية. هذه المهارات لا تكتسب تلقائياً، بل تتشكل من خلال المواقف، والانكسارات، والمراجعة المستمرة للذات..
نحن لا نختار أعمارنا، لكننا نملك خيار العمل على نضجنا النفسي. قد نعيش أربعين سنة بنفس العقلية، أو ننمو خلال سنة واحدة بفضل تجربة غيّرتنا من الداخل. النضج لا يقاس بعدد الشموع على الكعكة، بل بقدرتنا على أن نكون أكثر صدقاً مع أنفسنا، وأكثر تعاطفاً مع من حولنا، وأكثر حكمة في التعامل مع تقلبات الحياة.
[email protected]
www.shaimaalmarzooqi.com
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







