الشارقة: علاء الدين محمود
صارت ظاهرة الكتب والإصدارات الأعلى مبيعاً بمثابة صرعة أو موضة أو «براند»، بتعبير عصر السوق الذي نعيشه، ولئن امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع القرائية المتخصصة بأسماء مؤلفات يقال إنها الأعلى مبيعاً، فهل ذلك الأمر نتاج إحصاءات دقيقة ومعايير منضبطة كما يحدث في الغرب وبعض مناطق العالم الأخرى، أم أنها على مستوى العالم العربي صادرة من المكتبات ودور النشر نفسها؟ من الذي يحدد تلك الإصدارات وما هي القوى التي تتحكم في الإحصائيات؟ ومن جانب آخر هل وجود مؤلفات أعلى مبيعاً يقف دليلاً على انتشار ثقافة القراءة، وهل يشمل ذلك المحتوى، أي أن مضمون تلك المؤلفات بالضرورة هو جيد؟ تلك الأسئلة تطرح نفسها بقوة مع انتشار قوائم عربية تحمل أسماء إصدارات ومؤلفات في مختلف المعارف تدعي أنها الأكثر مبيعاً.
ثقافة الأعلى مبيعاً، أو«البست سيلر»، تسللت إلى العالم العربي من الغرب وتحديداً الولايات المتحدة، حيث ظهر ذلك الاهتمام بالكتب التي تباع بكميات كبيرة في وقت باكر وبصورة خاصة في عام 1889، وهنالك بالطبع مراكز ترصد ذلك النشاط على مستوى المراكز الثقافية المتخصصة أو دور النشر أو المكتبات أو الصحف والمجلات، حيث برزت العديد من الملاحق الثقافية في هذا المجال مثل ملحق صحيفة «نيو يورك تايمز»، وصحيفة «وول ستريت جورنال»، والعديد من المواقع والصحف، حيث تطور ذلك الأمر وصار أكثر دقة مع ظهور منافذ بيع الكتب الإلكترونية مثل «أمازون» والمواقع القرائية المتخصصة مثل «جوود ريدز»، وكذلك الجوائز العالمية الكبيرة.
تخضع هذه الظاهرة في الغرب إلى الكثير من المقاييس والمعايير، فهناك مواقع متخصصة في الكتب الأكثر مبيعاً بصورة أسبوعية وشهرية وسنوية، وهناك قوائم للمؤلفات الأعلى مبيعاً منذ أمد طويل، تشمل أعمالاً شهيرة مثل «دون كيشوت» لميغيل دي سيرفانتس، و«كونت مونت كريستو» لألكسندر دوما، و«هاري بوتر»، و«عيد الميلاد» لتشارلز ديكنز، والعديد من الروايات الكلاسيكية، واللافت في هذا الشأن أن هناك العديد من المؤلفات التي تتصادم مع الثقافة الرسمية في الغرب لكن أفردت لها مساحة كبيرة بحيث ظهرت العديد من المؤلفات ضمن الإصدارات الأكثر مبيعاً مثل عدد من مؤلفات كارل ماركس مثل البيان الشيوعي وغير ذلك، بالتالي فإن هذه الظاهرة في الغرب هي نتاج توجهات ثقافية وفكرية ونشاط اجتماعي متمثل في ازدياد عدد القراء والمهتمين بالكتب والمعارف المختلفة، إذ إن وجود قاعدة صلبة وعريضة من ثقافة التلقي هي التي أنتجت هذه الظاهرة وتحكمت فيها، وهي العملية التي تطورت أكثر مع الثورة التكنولوجية الرقمية التي أفرزت مواقع التواصل الاجتماعي في أزمنة العولمة وسيادة ثقافة السوق أو الاستهلاك، حيث صار كل شيء في ميزان التجارة والعرض والطلب بما في ذلك الأدب والثقافة، وأصبح يتم التعامل مع مختلف الإصدارات بوصفها سلعاً تجارية لابد أن تخضع لمعيار الدقة.
جدل
وعلى الرغم من رسوخ ظاهرة الكتب الأعلى أو الأفضل مبيعاً في الغرب والعديد من دول العالم المتقدم، إلا أن هذا الأمر لم يخل من جدل جهة هل تخضع الثقافة والأدب لمعايير وأدوات السوق والربح والخسارة، وهل تلك المؤلفات التي تعتلي المركز المتقدم تمتلك محتوى جيد؟ والشاهد أن الكثير من المثقفين هناك وقفوا معارضين لتلك الظاهرة حيث ارتبط مصطلح «بست سيلر»، عندهم بحمولة سلبية بل ومسيئة، واعتبروها مظهراً مخادعاً نتج عن الدعاية والإعلان، حيث يشير الناقد الأمريكي دينيس لوي جونسون المتخصص في مراجعة الكتب، وهو في ذات الوقت كاتب وشاعر، إلى أن مصطلح «بست سيلر»، هو أمر ضار ووهمي وزائف، لأن القراءة لا يمكن اعتبارها عملية تنافسية مطلقاً، وتلك القوائم لا علاقة لها بتمثيل الأدب والفكر والثقافة، بل يجب وضعها في الصفحات الاقتصادية أو المالية، وهذه العملية لا تنطوي على فائدة ثقافية، بل هي من صميم ظاهرة «التنافس»، ذات الحمولة السياسية المرتبطة بطبيعة النظم الاقتصادية الليبرالية.
كما لفت العديد من النقاد الآخرين إلى أن مثل هذه القوائم تقدم كتباً ذات محتوى متدن تعتمد على البهرجة والإثارة والتشويق، ويأتي ذلك على حساب المؤلفات الرصينة ذات الفائدة العالية سواء الكتب الأدبية أو ضمن المعارف الإنسانية الأخرى، ويشير الناقد الأمريكي جوناثان ياردلي إلى أن مثل هذه الظاهرة تشجع القراء، بفعل الترويج، على الإقبال على شراء كتب ليست ذات أهمية حقيقية، فهذه الظاهرة تعتمد على الكم أكثر من النوعية أو الكيف، والقراءة تجربة ذاتية، فمن يحدد ما هو الكتاب الأفضل، بالتالي فإن قوائم الكتب الأعلى مبيعاً تصنع قطيعاً من القراء المهووسين بالموضة وكل ما هو جديد، وهي بذلك تتحول إلى سلطة تحدد للناس الذي يقرؤونه، وفي هذا الاتجاه يرى فيليب ماكجوان الذي قام بإعداد دراسة حملت عنوان «الأكثر مبيعاً والعقلية الرائجة»، أن الناس قد قبلت معايير «البست سيلر» دون تدقيق أو وقفة نقدية، غير أن هذه القوائم، في ذات الوقت، لها أهميتها في دراسة اتجاهات القراء والمجتمع، في ما يرى آخرون أن مثل هذه القوائم تلفت النظر إلى الثقافة الشعبية وهو مجال لم يجد الدراسة الكافية.
تفضيلات
في العالم العربي يبدو أن الحال مختلفة، وذلك لعدم وجود معايير دقيقة وثابتة ومؤسسات تحدد المؤلفات الأكثر مبيعاً بشكل دوري ومستمر، بل إن التنافس بين دور النشر عامل مهم في صناعة تلك القوائم، إلى جانب مواقع التواصل الاجتماعي والتي يتحكم فيها أشخاص من غير ذوي الاختصاص، وكذلك المواقع القرائية التي تخضع أيضاً للحالة المزاجية إذ إن ترشيحات القراء هي التي تلعب الدور الأساسي في ظهور القوائم، بالتالي فإن هذه الظاهرة عربياً لا تزال بعيدة عن التدقيق، وتسود فيها الكثير من الحيل والأساليب الترويجية التجارية على نحو ما تفعل دور النشر في عملية الإعلان عن منتجاتها عبر استخدام عبارات رنانة تجذب القراء مثل: «الأكثر انتشاراً»، أو «الطبعة الأربعون»، أو «الأكثر مبيعاً»، أو «تمت ترجمته للعديد من اللغات»، من دون توضيح الآليات التي جعلت دار النشر تبرز مثل هذه العبارات والجمل المثيرة، وبطبيعة الحال فإن الجانب التسويقي التجاري يبدو هو الأكثر تحكماً في الظاهرة، حيث تنجح هذه العبارات الدعائية في كثير من الأحيان في زيادة المبيعات، ويدخل ضمن ذلك اختيار العناوين البراقة التي ربما لم يخترها المؤلفون أو الكتاب، بل اقترحتها دور النشر في سياق الفعل الدعائي، مما يشير إلى أن نجاح بعض المؤلفات في الوصول إلى درجة «الأعلى مبيعاً»، يكون في كثير من الأحوال مصنوعاً ونتاج الفعل التجاري البحت، ولذلك فهو يخضع لبراعة دور النشر أو المكتبات التجارية في الترويج لبضائعها الثقافية.
اهتمامات
لا شك أن ثقافة القراءة نفسها في العالم العربي، لا تقارن بالغرب، أو بعض المناطق المتقدمة، وذلك لتباين الدول العربية نفسها من حيث الأوضاع الاقتصادية والسياسية، فهناك بلدان ترتفع فيها نسبة الأمية، كما أن واقع الفقر في دول أخرى يجعل من القراءة فعلاً كمالياً ترفيهياً، وهذا الأمر له جوانب عدة، ووجود قوائم للكتب الأعلى مبيعاً سواء حقيقية أو مصنوعة يجعل القراء يتجهون نحو هذه المؤلفات المعلن عنها، بدلاً من أن يرهقوا أنفسهم في البحث عن الكتب الأجود، مما يعني أن هذه القوائم تحمل الكثير من الدلالات السلبية وتبرز كسلطة تحدد ما هو الأفضل، ونسبة لذلك الوضع نجد أن اهتمام القراء في العديد من بلدان الدول العربية يتجه نحو تلك المؤلفات ذات المحتوى المتدني خاصة ما يعرف بكتب التنمية الذاتية التي تغري المرء بعناوينها الجذابة «كيف تحقق النجاح؟» و«كيف تعيش سعيداً؟» و«الوصول إلى المكانة وتحقيق الذات»، و«كيف تصبح ثرياً؟»، وهي بطبيعة الحال اهتمامات تتوافق مع نمط العيش وبؤس الواقع في دول عربية عديدة، بالتالي نجحت هذه القوائم التي تصنعها دور النشر ومواقع التوصل الاجتماعي والمكتبات والمواقع القرائية في انتشار الكثير من الكتب التي حققت نسبة مبيعات كبيرة دون أن تكون ذات مضمون جيد.
تضليل
من ضمن العوامل التي تقود إلى بروز كتب معينة ضمن المؤلفات الأعلى مبيعاً، هو أن بعض الكتاب في سبيل البحث عن الشهرة والترويج لمؤلفاتهم يستعينون بدائرة من الأصدقاء في مواقع التواصل الاجتماعي يقومون بالترويج للمنتج بصورة مكثفة، خاصة روايات الرعب والجريمة، بحيث يتم إنشاء صفحات ومجموعات «قروبات» في عملية الترويج تلك، وكذلك على مستوى المواقع القرائية المتخصصة ذات الشهرة الكبيرة مثل «جود ريدز»، فهو الآخر لا يخلو من الكثير من تلك الممارسات، فالكتاب المفضل يتم اختياره من خلال عدد «النجوم»، فالذي يتحصل على خمس أو أربع نجوم يصعد إلى قائمة الكتب المفضلة، من خلال مجموعات الأصدقاء والمعارف، والكتابة عنه داخل الموقع بجمل قصيرة مضللة ومؤثرة مثل: «هذا كتاب مميز بالفعل»، و«أكملت قراءته وأريد أن أعيد الاطلاع عليه مرة أخرى»، وهنا يبحث القارئ المسكين عن هذا الكتاب الذي صنعت حوله هذه الدعاية في المكتبات ليذهب بدوره إلى قائمة الإصدارات الأعلى مبيعاً.
أسس
إن القوائم الموجودة للكتب الأعلى مبيعاً في العالم العربي لا تقوم على أسس واضحة، بل يتم اللجوء إلى التلاعب في كثير من الأحيان، فعلى سبيل المثال فإن الكتاب الأعلى مبيعاً والذي تعلن عنه دار نشر معينة قد لا تتجاوز مبيعاته الألف نسخة، لكنه الأكثر مبيعاً مقارنة مع بقية المؤلفات في ذات الدار، فعدم وجود قاعدة بينات حقيقية يحول دون التوصل إلى قوائم مثالية، وهي المتمثلة في وجود أدوات لرصد اتجاهات القراء وتفضيلاتهم، ولا يمكن مقارنة هذه القوائم بما يحدث في الغرب حيث تسود المعايير والأدوات الكافية، كما أن هناك قاعدة جماهيرية من القراءة تتابع وترصد، وذلك ما جعل دور النشر هي المتحكمة في مثل تلك القوائم وبالتبعية هي تتحكم في أمزجة المتلقين وتؤثر في تفضيلاتهم، وتلك مسألة في غاية الخطورة وتؤدي إلى أن تسود كتب الرعب والجريمة والتنمية الذاتية وغير ذلك من كتب ذات مضامين متدنية، ويسود الكم على حساب الكيف، فأعداد النسخ المباعة لا تقف دليلاً على انتشار ثقافة القراءة، ولابد من وقفة في هذا المقام بحيث تكون هناك آليات حقيقية ترصد واقع القراءة نفسه في العالم العربي ككل، وتعتمد في إحصاءاتها على معايير حقيقية.
انتشرت ثقافة «الأعلى مبيعاً»، في المشهد العربي مع ازدهار النشاط في مجال الطباعة والنشر والتوزيع مؤخراً، مما جعل لهذه الدور الكلمة الأعلى في تحديد تلك القوائم، وهذه الحالة يجب الخروج منها من خلال ضرورة أن تخضع المؤلفات لمراجعة نقدية دقيقة ولازمة من قبل متخصصين يقع عليهم وضع مثل تلك القوائم حتى تكون معقولة، ولكي تكون هذه الظاهرة صحية فإن الأمر يتطلب التوسع في عملية القراءة وازدياد المتلقين وصنع قاعدة جماهيرية حقيقية للاطلاع، وفي هذه الحالة فإن القراء هم الذين يحددون الكتب الأفضل وبالتالي الأكثر مبيعاً.