بصدد النظام الدولي

00:08 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. منصور جاسم الشامسي

«النظام الدولي» «متعدد القطبية»، حالياً، تعلو هرمه ثلاث قوى عالمية كبرى: الولايات المتحدة وروسيا والصين، وهناك دول «متوسطة» القوة في طور النماء كقوى «تَعْديلية»، قادرة على تغيير قواعد النظام الدولي، وتكون في عِداد «القوى الكُبرى» في المستقبل المنظور أو البعيد.
الولايات المتحدة، مازالت، في هذا النظام الدولي «التعددي» تملك زمام المبادرة الدولية، كقوة كبرى، مؤثرة في العالم، لأسباب عسكرية واقتصادية ومالية وسياسية وثقافية وتكنولوجية ونفسية، أي أن «النظام الدولي» مازال «أُحادي القطبية»، على الأقل في جوانب معينة. مكمن قوة الولايات المتحدة قدرتها على استقطاب وجذب «حلفاء» و«أصدقاء» و«شُركاء» لها وتشكيل «تحالفات»، تَدعمها وتُعزز قوتها «الشاملة»، وذلك طبقاً لنظرية «التهديد» و«بِناء التحالفات»، التي تطورت بجامعات أمريكية وانتشرت.
نظرية «التهديد» و«بناء التحالفات» ترى أن الدول تَعقِد تحالفاتها بناءً على تصوّر لديها بوجود تهديد لها، سواء كان حقيقة أو وَهْماً. الدول تتحالف لموازنة أو مواجهة أو احتواء هذا «التهديد» الذي يتمثل في عناصر: القوة (العسكرية وغيرها)، والقُرب الجغرافي، والقُدرات الهجومية، و«النِيّات»، – «نِيّات» الآخرين، اهتماماتهم وأفكارهم وعقائدهم، وتَبني «الدول» على ذلك تَصوّرها. لذا، الولايات المتحدة عاملت الاتحاد السوفييتي السابق أثناء الحرب الباردة (1945 – 1991) كعنصر تهديد لها، كونه يملك القوة العسكرية، والتميز الجغرافي، والقدرة الهجومية.
استقطبت «نظرية التهديد وبِناء التحالفات» دُولاً، لتكون في صف الولايات المتحدة، كحُلفاء أو أصدقاء أو شركاء، ترى ذات التَصوّر بوجود التهديد الخارجي لها أيضاً. لذا، نشأت تحالفات، عالمية، تقودها الولايات المتحدة، مِنها «حلف الناتو»، لموازنة أو لمواجهة أو لاحتواء الاتحاد السوفييتي وأصدقائِه وحُلفائِه وشُركائِه. الاتحاد السوفييتي، بِدوره، أنشأ تحالفات مُضادة لموازنة أو مواجهة أو احتواء «التهديد الأمريكي». ولكن، واقعاً، تحالفات الولايات المتحدة كانت «مُستقرة» و«أقوى» فقد انهار الاتحاد السوفييتي ومنظومة تحالفاته العسكرية والسياسية العالمية في 1991.
«نظرية التهديد وبناء التحالفات» أثبتت فاعليتها، فالاتحاد السوفييتي، بدأ من عام 1985، مع وصول، ميخائيل غورباتشوف، للرئاسة، في تغيير «التَصوّر» السوفييتي تجاه الولايات المتحدة بنقلها من «خانة الأعداء» و«الخصوم» إلى «خانة الأصدقاء»، باعتبار الولايات المتحدة «غير مُهَدِّدة» للاتحاد السوفييتي، وإنما «صديق»، لذا يُمكن للاتحاد السوفييتي أن يتقارب ويتفاهم مع الولايات المتحدة. فكان تغييراً استراتيجياً مُذهلاً، أحدث غورباتشوف تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية السوفييتية فاقترب بها من الولايات المتحدة كثيراً فاستورد إصلاحات «ليبرالية» غربية داخل بنية الاتحاد السوفييتي، أدت لتفكك منظومة تحالفاته، وانهياره في نهاية الأمر، فانفردت الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم.
الرئيس الروسي بوريس يلتسين (1991 – 1999) استكمل «تصوّر» غورباتشوف، بصداقة الولايات المتحدة والغرب، وبأنهم «غير مُهددين» لروسيا فتحالف «ضِمنياً» مع الولايات المتحدة والغرب بتحويل الاقتصاد الاشتراكي الروسي إلى اقتصاد سوق رأسمالي، وعالج الاقتصاد الروسي بالصدمات وتحرير الأسعار والخصخصة، فوقعت غالبية الممتلكات الوطنية والثروة في أيدي قِلة بسبب هذا التحول الجذري في الاقتصاد، فنشأت «الطبقة الرأسمالية» في روسيا – أُسوة بالنمط الأمريكي تماماً – فتمكنت الاحتكارات الدولية من أخذ الأسواق السوفييتية السابقة، وعانت روسيا التضخم والانهيار الاقتصادي ومشاكل سياسية واضطرابات اجتماعية، حتى قال نائب الرئيس الروسي، حينها، الكسندر روتسكوي عن «الإصلاحات» التي نفذها الرئيس بوريس يلتسن بأنها «إبادة اقتصادية».
حين وصل فلاديمير بوتين للرئاسة الروسية في عام 2000 بدأ في «التراجع» عن سياسة «التقارب»، و«التحالف» – الضِمني، مع الولايات المتحدة والغرب، التي كانت مُتبعة في عهد أسلافه، غورباتشوف ويلتسين. وإن كان لم يضع الولايات المتحدة والغرب في مرتبة «الأعداء» إلّا أنه لم يضعهم في مرتبة «الأصدقاء»، فظل مُتوجساً منهم، تنتابه «رِيبة» و«شَك» تِجاههم، ثم اتضح «التصوّر» الجديد لديه باعتبارهم «تهديداً» لأمن روسيا فهاجم أوكرانيا، حَليفة الغرب، في فبراير(شباط) 2022 لإبعاد حلف شمال الأطلسي – الأمريكي الغربي عن حدود روسيا، وقد صرح بوتين، مؤخراً، بأنه «لا يمكن الوثوق بالأعداء».
الولايات المتحدة، كذلك، «تتصوّر» بأن الصين ودولاً أخرى، إلى جانب روسيا، مُهَدِّدة لها، أي لمصالحها. التغيير «البراغماتي» الذي أحدثه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فترة رئاسته الثانية منذ يناير 2025 تِجاه روسيا بالتقارب معها لا يُغير من أصل التَصَوّر الأمريكي بوجود «تهديد روسي»، كما كان ذات «التَصوّر» تجاه الاتحاد السوفييتي، كعنصر مُهدد للمصالح الأمريكية، فهدف الرئيس الأمريكي هو «احتواء» روسيا و«التهدئة» معها، و«الاحتواء»، في الحقيقة، ما هو إلاّ «عَدَاء» خَفِيّ، ضِمني، و«التهدئة»، مجرد حَرب أو مواجهات مُؤَجلة.
«نظرية التهديد وبِناء التحالفات» فاعلة في الشرق الأوسط، كذلك، فالولايات المتحدة، لديها تَصوّر بوجود تهديد لمصالحها بالمنطقة من قِبل دول ومنظمات مُعينة، وهؤلاء، بدورهم، لديهم ذات التَصوّر بتهديد الولايات المتحدة لهم. إذن، هو تَصوّر مُتبادل بالتهديد. لهذا، تنشأ «التحالفات» و«التحالفات المُضادة» بناءً على هذا التَصوّر المُتبادل بوجود تهديد.
على هذا الأساس النظري – تنشأ الحروب والمواجهات، فإذا ما أُريد للسلام الحقيقي أن يتحقق فلابد من توافر شرط مركزي، يغَيّر التَصوّر بالتهديد، أي زَواله، واقعاً، بشكل مُتبادل، مُتساوٍ، بين أطراف النزاع. لكن، عند عدم تحقق هذا الشرط، فإن العَداوات والحروب مستمرة والاستعدادات العسكرية لها متواصلة.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"