تضليل بلا حدود

00:14 صباحا
قراءة 4 دقائق

أحمد مصطفى

قبل ظهور الإنترنت وانتشار وسائل التواصل عبرها وتطور الهواتف إلى «هواتف ذكية» متصلة بالإنترنت كانت هناك أيضاً حملات كذب وتلفيق وتضليل للرأي العام من خلال الدس المعلوماتي في وسائل الإعلام التقليدية. كما كانت هناك الإشاعات المغرضة التي تتضخم بتناقلها بين الناس لتحقيق هدف صرف الأنظار أو تشكيل وعي مزيف لأهداف محددة.
صحيح أن مستوى الصدق بين السياسيين والمسؤولين ربما كان أفضل قليلاً من وضعنا الحالي، لكن هناك في الخطاب الرسمي أيضاً «أنصاف الحقائق» وحتى ما تسمى الآن تجميلاً ل «الحقائق البديلة». كل ذلك كان يبلغ أوجه في أوقات الأزمات والحروب، ومن هنا جاءت المقولة الشهيرة بأن «أول ضحية في أي حرب هي الحقيقة».
هناك تصور، لا أعتقد أنه صحيح تماماً، بأن التطور التكنولوجي والوفرة المعلوماتية وسهولة نقل الأخبار والمعلومات إلى مئات الملايين في لحظة عبر الإنترنت ساعد على تفادي الكذب والتضليل وأفشل طرق «التعبئة والتحشيد» السابقة ببيانات مغلوطة. بل ربما كان العكس بالعكس، وإن كانت وسائل التواصل الحديثة أوسع انتشاراً بقدر هائل عن السابق إلا أنها أيضاً أصبحت وسيلة تزييف وتلفيق وترويج لنظريات المؤامرة.
إن نظريات المؤامرة الآن والكذب المتعمد يكتسبان قدراً كبيراً من الدقة، بحيث «تبلعهما» أغلبية الجماهير دون تفكير أو تدقيق.
يحدث في الأزمات غالباً، وأكثر في حالات الحرب، أن يكون الخطاب الرسمي غير دقيق تماماً، سواء لرفع الروح المعنوية لدى جماهير كل طرف من أطراف الصراع، أو لتقديم صورة مجافية للحقيقة لتحقيق أهداف معينة. وفي السنوات الأخيرة زادت وتيرة التلفيق في الخطاب الرسمي حتى في أوقات السلم، وكلما واجهت حكومة ما مشكلة حتى لو كانت تتعلق بأزمة مياه وصرف صحي – كما حدث في بريطانيا مؤخراً.
كان الإعلام التقليدي في السابق، الملتزم بقدر معقول من المهنية، يفند تلك التلفيقات في الخطاب الرسمي من خلال التحقيقات الصحفية الموضوعية.
وكانت القوانين تحمي الصحفيين الباحثين عن الحقيقة في الوقت الذي تعاقب فيه أي تجاوز من باب التشهير أو السب والقذف. كل ذلك كان ضمن منظومة تضمن إلى حد ما وصول الجماهير إلى المعلومات والأخبار الصحيحة وتقليل كمية التلفيق والتضليل في الإعلام.
ربما كان يتم تجاوز تلك المعايير أيضاً في حالات الحروب، لكن ذلك كان يتم أيضاً تحت سقف معين تضمن النظم والقوانين ألا يتم تجاوزه. ولعلنا نتذكر مطلع الثمانينات من القرن الماضي حين دخلت بريطانيا حرباً مع الأرجنتين حول جزر الفوكلاند كانت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تستخدم في تغطيتها «العدوان البريطاني على الأرجنتين». وثارت ثائرة رئيسة الوزراء وقتها مارغريت تاتشر ولو كان بيدها لأغلقت «بي بي سي» تماماً، لكنها لم تستطع وقف التغطية المتوازنة نسبياً للمؤسسة. ولا يعني ذلك أن المؤسسة محايدة تماماً، لكنها كانت تحافظ على قدر من الموضوعية باعتبارها مؤسسة إعلامية تعمل لصالح الجمهور وليس للحكومة، وهي ميزة فقدتها الآن إلى حد بعيد.
أما الآن، فإن مواقع وتطبيقات التواصل تكتظ بقدر مهول من التزييف والكذب الذي يجعل من الصعب على أغلبية الجماهير تصفيته وتنقية الصحيح من الملفق. ليس فقط باستخدام صور وفيديوهات قديمة من مواقع أخرى والادّعاء بأنها نتيجة الحروب الحالية في المنطقة، إنما أيضاً ما تسهله برامج الكمبيوتر من تزييف الصوت بحيث تسمع الإنترنت ما لم يقله أحد.
مفهوم أن هناك «لجاناً إلكترونية» تستخدمها أطراف الصراع لترويج ما يخدم مصالحها وأهدافها بالكذب والتضليل أو على الأقل بالمبالغات وتضخيم الأمور. كما أن هناك جماعات متشددة ومتطرفة تعتمد نظريات المؤامرة وتروج لها بإتقان يخدع أغلب الناس لأهداف انتهازية مريضة أحياناً. لكن الأمر الآن تجاوز كل ذلك، وأصبح حجم الزيف والتلفيق وترويج نظريات المؤامرة يفوق بأضعاف مضاعفة أي معلومة صحيحة أو رأي متوازن.
المشكلة الأساسية أن الناس أصبحوا يميلون أكثر لنوع من «الاستسهال»، إما لأنها تريد أن ترى وتسمع ما يرضيها أو لأنها لا ترغب في بذل أي جهد للتحقق والتدقيق. بل يمكن القول إن هذا الفيضان الهائل من المعلومات والآراء وسهولة الوصول إليها على هاتفك الذكي جعل عمل العقل لفرز الغث من السمين أمراً مستبعداً في أغلب الأحيان.
لذا نرى كثيراً ممن نعتبرهم «عقلاء» وعلى قدر من المعرفة والثقافة يعيدون نشر تغريدات ومنشورات لا يمكن أن يقبل بها العقل دون أي تحقق أو تدقيق. وتصبح مهمة التنبيه بأن هذا «خبر كاذب» أو تلك «صورة ملفقة» مسألة مضنية تماماً، وفي الأغلب الأعم لا تفيد، لأن انتشارها أقل بكثير من انتشار الزيف والتضليل.
لا يقتصر الخطر من هذا التضليل بلا حدود على سوء تفسير أي تصرف من قبل أي طرف استناداً إلى ما ترسخ في وعي الجماهير من زيف معلوماتي. إنما سيؤدي ذلك في النهاية إلى مزيد من الكوارث في المجتمعات وعلاقات الدول وغيرها. ولا أتصور أن أي تنظيم أو تقنين لما ينشر ويبث على وسائل التواصل والإنترنت عموماً قادر الآن على وقف هذه الموجة الكارثية.

[email protected]

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"