شخبطة الهوامش

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

علاء الدين محمود

لئن كان بعض من القراء يفضل في عاداته وطقوسه القرائية أن يستعين بورقة وقلم لكي يدوّن ملاحظاته وتعليقاته على النص، فإن الكثير منهم لا تحلو له هذه العملية إلا على هوامش الكتب، أو الحواشي، تلك المساحة الخالية البيضاء المغرية لقلم المتلقي الذي يكون في حالة انشغال بمتابعة ما دوّنه المؤلف من أفكار ومعلومات وربما إبداع أدبي، وهي لحظة يتوهج فيها الذهن وتكون نتيجة ذلك الرغبة في التحاور مع المؤلف.
وينحصر تفسير الكثيرين في تناول ظاهرة الكتابة على الهوامش بأنها فعل من أجل الشرح والتوضيح وتسجيل الملاحظات وكل ذلك يبدو صحيحاً، لكن قلة هي التي تعمّقت في هذه الظاهرة التي قد تتجاوز تلك الأسباب التي قدمها بعضهم، ربما هي ممارسة تريد أن تنشئ علاقة مختلفة مع النص.
ولأن الكتاب يعبر عن أفكار المؤلف وسلطته التي يريد أن يفرضها على القارئ، فإن هذا المتلقي العنيد يريد أن يحقق سلطته هذه بالاستفادة من الهوامش، وإذا كان كثير من النقاد والمشتغلين في حقلي الكتابة والقراءة يرون أن هذه العملية «الكتابة على الهامش»، يريد منها القارئ أن يكوّن ملاحظاته وخلاصاته المستفادة مما قدمه له المؤلف، فإن الأمر يبدو أكبر من ذلك، فعبر الهامش يريد القارئ أن يغادر منطقة التلقي، أن يعلن عن وجوده الندّي للكاتب نفسه، إنها عملية ذهنية تتجاوز مسألة التفاعل والتجاوب مع النص نحو تجاوزه بتدوين أفكار إما أنها قد سقطت من المؤلف عبر ملء الثقوب والفراغات، أو لم تخطر على باله في الأساس، أو هي نقيض لرؤيته، وبالتالي فإن الكتابة على الهامش تنطوي على لحظة تأسيس جديدة تؤكد سلطة القارئ ووجوده المستقل عن النص.
التدوين على الهامش وتسويد تلك الفراغات البيضاء ينطوي في كثير من الأحيان، على فعل تمرد كبير من قبل القارئ، على رغبة ملحّة في الانفلات من هيمنته، ليصبح مشهد صفحة الكتاب المملوءة بتلك الأفكار «غير الرسمية»، التي تعبر عن صاحبها فقط، وكأنها حرب مستعرة بين هامش ومركز، أو، في بعض الحالات، صراع بين أفكار لقيت الاعتراف بعد أن أجيزت وطبعت ونشرت، وأخرى ربما لا تريد أن تعترف بها، أو على الأقل أن تتشاكس معها أو تمارس حق الاختلاف.
إن الكتابة على بياض أوراق الكتب تعبير حقيقي عن موقع الكاتب والقارئ والعلاقة بينهما، فالمؤلف دائماً في موقع الصدارة والمركز، بينما القارئ مهما كانت درجة عمقه وذكائه فهو في خانة الهامش، وبالتالي فإن الظاهرة تجسد ذلك الاختلاف العميق بينهما، وربما بتعبير فرانك إيفرار وإريك تينه اللذين كتبا عن رولان بارت هي مغامرة في مواجهة النص.
[email protected]

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"