في زمنٍ تتزايد فيه التحديات، لم يعد كافياً أن نعيش الواقع بردود أفعال آنيّة، فالأوطان تزدهر بقوة وعي شعوبها، وبمدى انخراطهم المسؤول في حماية المكتسبات وصناعة الغد. ومن هنا، ندرك الحاجة إلى معادلة ذهبية: أن نفكر كمواطنين نملك إحساساً عميقاً بالوطن، وأن نخطط كاستراتيجيين نقرأ المشهد بعيون بعيدة المدى، ونستشرف القادم بعقل يقظ وقلب مخلص.
أن تفكر كمواطن، يعني أن تنتمي. أن تعي أن كل قرار تتخذه في حياتك اليومية، من احترام القانون إلى اختيار التخصص الجامعي، من الالتزام المهني إلى المشاركة المجتمعية، كلها أفعال تُسهم في تشكيل صورة الوطن وتدعيم استقراره. فالمواطنة ليست حالة قانونية فحسب، بل شعور دائم بالمسؤولية، واستعداد للتضحية في أوقات الشدة كما في أوقات الرخاء. إنها منظومة قيم تُترجم إلى سلوك يومي. وفي هذا الإطار، أثبت شعب الإمارات، مراراً، أنه ليس مجرد متلقٍّ لقرارات الدولة، بل هو شريك حقيقي في بنائها، وسند موثوق لقيادتها، وحامٍ لرؤيتها المستقبلية.
وأهم ما يميز المواطن الواعي هو قدرته على الربط بين مصلحته الفردية والمصلحة العامة، بين تطلعاته الشخصية وأهداف وطنه الكبرى. فكل إنجاز يتحقق على المستوى الوطني، ينعكس في النهاية على رفاه المواطن وجودة حياته. من هنا، فإن الإسهام في المبادرات المجتمعية، ليست امتيازات، بل هي مسؤوليات وطنية، بل من علامات النضج الحضاري لأي مجتمع.
أما أن تخطط كاستراتيجي، فذلك يستلزم تجاوز العاطفة إلى الفهم العميق للسياق، والاعتراف بترابط التحديات وتشابكها. نحن نعيش في عالم يزداد اضطراباً تصاعد في التوترات الجيوسياسية، تحولات اقتصادية غير مسبوقة، سباق عالمي نحو تقنيات الذكاء الاصطناعي، قضايا مناخية مقلقة، وتحديات في أمن الطاقة والغذاء والمياه. في هذا العالم، لا مكان للارتجال، ولا رفاهية في الانتظار. يجب أن نفكر بلغة التحليل، ونقرر بلغة المستقبل، لا بلغة اللحظة العابرة أو التفاعل العاطفي.
لقد قدمت القيادة الرشيدة في دولة الإمارات نموذجاً متقدماً في التخطيط بعيد المدى، منذ زمن والدنا المؤسس الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وحتى اليوم. لم تكن النظرة مقتصرة على الحاضر، بل على المئوية وما بعدها. دولة تفكر في الأجيال المقبلة، وتبني قطاعات لم تكن موجودة من قبل، مثل الفضاء، والتكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا الطاقة النووية السلمية، والاقتصاد الرقمي، وتستثمر في العقول والمنظومات المؤسسية، لا في البنية التحتية فقط. وما كان لهذا النموذج أن ينجح من دون تلاحم شعبي قلّ نظيره، قوامه الثقة، والشفافية، والتفاعل الإيجابي بين القيادة والشعب.
وفي زمن التحديات، تزداد قيمة هذا التلاحم الوطني. فعندما تصاعدت الأزمات والحروب الإقليمية، لم تنكفئ الدولة على نفسها، بل شاركت في صنع السلام، وتهدئة النزاعات ودعم الاستقرار الإقليمي والعالمي بما ينعكس على أمن الشعوب ورفاهيتها. وحين اجتاحت جائحة كورونا العالم، أثبتت الإمارات أن الاستثمار طويل الأمد في الصحة والتعليم والبنية التحتية الرقمية لم يكن ترفاً، بل هو خيار استراتيجي. فقد تعاملت الدولة بكفاءة مع الأزمة، وواصلت تقديم خدماتها، ووفّرت اللقاح مجاناً للجميع، وعززت قدراتها اللوجستية والصحية. كما قادت الإمارات الجهود الدولية لمواجهة التغير المناخي من خلال استضافة مؤتمر «كوب 28»، وتبنّي أهداف طموحة للحياد الكربوني، واستثمارها الواسع في الطاقة المتجددة.
كما أن رؤية الإمارات في جذب المواهب العالمية، وتحديث التشريعات الاقتصادية، وتعزيز بيئة الأعمال، تمثل تفكيراً استراتيجياً متقدماً يجعل من الدولة مركزاً عالمياً للتنافسية والابتكار والتسامح. وهو توجّه لا يمكن أن ينجح من دون مواطن واعٍ، يتفهم أبعاد هذه التحولات، ويُسهم فيها، ويستفيد منها، من دون أن يفقد هويته أو ثوابته.
ولعل من أهم دعائم بناء الوعي الوطني وتعزيزه، هو التعليم القائم على ترسيخ القيم في المنزل، وتعزيز التفكير النقدي، وربط المعرفة بالسلوك المجتمعي المسؤول. فالتعليم لا يُقاس بعدد الشهادات، بل بقدرته على إعداد مواطن متوازن، يمتلك المهارة، ويحترم التنوع، ويعي دوره في استقرار وطنه وتقدمه. وعندما يصبح التعليم أداة للتمكين، ويشعر كل فرد أنه جزء من النسيج الوطني، تتعزز المناعة الداخلية للوطن ويعلو منسوب الوعي والانتماء الحقيقي.
إن الحفاظ على هذه المكتسبات، بل وتعظيمها، يتطلب رفع منسوب الوعي والمسؤولية لدى المواطن نفسه. فالمستقبل لا تصنعه السياسات وحدها، بل يصنعه الإنسان: عقله، وولاؤه، ونمط تفكيره، وسلوكه اليومي. علينا أن نغرس في نفوس أبنائنا معنى المواطنة الصالحة، وأن نربط بين الانتماء والفعل، وبين الولاء والعمل. فدعم الوطن لا يكون فقط بالثناء، بل بالعمل والمبادرة والمشاركة الإيجابية والفعالة.
عندما يكون هناك جيل يقرأ الأحداث بذكاء، ويتعامل مع المعلومات بوعي، ويدرك أن الاستقرار أساس التنمية، سينتصر الوطن، وأن الولاء والطموح متلازمان لبناء البيت والوطن، ومن يملك أدوات المستقبل من معرفة ومهارة ومرونة فكرية. سيكون هناك جيل يفكر بعقل استراتيجي، ويحب وطنه من دون قيد، ويعي أن التحديات لا تهزم الأوطان، بل تكشف معادن شعوبها، وتُبرز قوتها الداخلية.
وفي الختام، فإن ما نحتاج إليه في هذا الزمن الصعب هو معادلة واضحة وثابتة: مواطن بوعي عالٍ ومسؤولية صادقة، يعمل جنباً إلى جنب مع قيادة حكيمة، فيتجاوز الوطن التحديات، ويصنع التاريخ بإرادة جماعية لا تعرف المستحيل.
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







