يقال إننا على مشارف اتفاق ينهي الحرب في غزة التي تحولت منذ شهور، في توصيف خجول، إلى مأساة، لكنها في نظر منظمات دولية وشخصيات وازنة عالمياً وملايين البشر الذين لم يغادروا فطرتهم السوية، إلى وصمة عار في جبين الإنسانية.
كل اتفاق يوقف هذه الحرب المجاوزة لكل الأعراف الإنسانية والدولية مُرحَّب به وكان يفترض أن يكون اكتمل وبدأ تنفيذه منذ فترة طويلة وربما تكون تفاصيله الدقيقة وتبعاتها هي أكثر ما يشغل الأطراف المعنية به، لكنَّ ما يهم غيرهم هو أن يستعيد الناس في غزة القدر الأدنى من إنسانيتهم التي تبددت بين حماقات سياسية وحسابات ضيقة الرؤية، وردود عليها تجاوزت المعتاد وتحولت إلى انتقام مباشر من الأبرياء، ومواءمات دولية تتعامل مع ملف القطاع إن لم يكن بلا إنسانية، فبنوع انتقائي منها ينتصر لضحية في مكان، ويسهم في الإجهاز عليها في غيره.
والاتفاق، على أهميته، ربما يكون لصُنّاعه، إن اكتمل، نهاية مواجهة عسكرية يحكم التطرف والإفراط في استخدام القوة مساراتها، لكنه للغزيين بداية حياة تتواصل فيها صور المعاناة التي فاقت على كل حد، وتمثل كل صورة منها مساءلة لعالم اختبرت إنسانيته في غير موضع، وتأكد مرات أنها انتقائية، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يغض الطرف عن صرخة دولية بشأن بشر يتساقطون من الجوع في الشوارع.
إننا أمام صورة مأساوية لا يجوز أن تلتصق بزماننا، فهي ابنة قرون سابقة كان يمكن أن يحاصر فيها القحط جماعة، أو يغيب الفيضان في مكان ما، أو تفتك الأوبئة ببقعة بعينها، فيأكل الناس أوراق الشجر أو جثث مَن مات، أو جيفاً، ثم تأتينا الحكايات فنجزع منها أو يعجز خيالنا عن إدراك تفاصيلها، بل إن بعضنا يعتبرها مبالغات مؤرخين.
ماذا نفعل إذا هذه الحكاية الآتية من غزة بلا مؤرخين أو حاجة إلى إعمال الخيال؟ إن عالماً يتباهى بقدراته العقلية التي روضت كل شيء يقبل معظمه، صامتاً أو عاجزاً، أن يسقط بعض البشر من شدة الجوع.
اعتبر البعض التحذير من مجاعة وشيكة في غزة نوعاً من المبالغة التي تلفت أنظار من يعنيهم الأمر إلى مآلات قاسية للحرب الممتدة، فيتفقوا على وقفها، لكن دولاً عربية رأت مبكراً خطر الجوع المقبل ولم ترتضه لأهل غزة ولا تقبله لغيرهم.
ورغم جهود هذه الدول، فإنها ظلت قاصرة عن درء الخطر كاملاً بعدما اصطدمت بتعنت إسرائيلي، وتمدُّد المأساةِ في القطاع، بل وتحول «مساعدات» غذايئة أخرى إلى قنابل تحصد منتظريها في مشهد لا ينفصل عن بقية مشاهد الحرب.
ها هو الخوف من الجوع يصبح حقيقة تسقط ضحاياه في الشوارع أمام مرأى الجميع ويعزّ الماء والدواء وأماكن التداوي وكل ذلك يرسخ وصمة العار في مسيرة العالم الذي تتبدل فيه المعايير من موضع لآخر، ويفسر الإنسانية وفق الهوى.
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







