اقترن الحرف العربي على مدى قرون بالمفاهيم الروحانية السامية، مؤكداً دائماً مكانته المهمة بوصفه فناً تعبيرياً راقياً، يحمل بين حروفه تجليات المعنى الروحي، وغدا وعاء للفضائل الأخلاقية مثل الصبر، والشكر، والتواضع، والعدل. ومن خلال ما يتمتع به الخط العربي من انسيابية وتوازن وتناغم بين حروفه، استطاع المشتغلون به أن يجسدوا قيماً معنوية في صورة مرئية، تكون فيها الكلمة الطيبة كما الشجرة الطيبة، تتفرع جمالاً ونوراً.
يقدم لنا الخطاط صلاح الدين شيرزاد، لوحة بنص الآية 7 من سورة إبراهيم، التي يقول فيها الله جلّ جلاله: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، وهي آيات تدل على أنه تعالى امتن على كثير من عباده فأعطاهم من كريم السجايا، وعظيم الصفات ما علت به أقدارهم، وسمت به منازلهم، وارتفعت به درجاتهم عند ربهم سبحانه وتعالى، ومن أجلّ هذه الصفات قدراً، وأعظمها أثراً، صفة الشكر، وهي ظهور أثر نعمة الله في لسان عبده ثناء واعترافاً، وفي قلبه محبة، وفي جوارحه طاعة وانقياد، وهي دليل على كمال العقل، وصلاح القلب.
إلهام
الجمال في هذه اللوحة لا يتوقف عند المعنى، بل يتجلى بأبهى حلله في التركيبة الفنية التي حملت الآية، حيث امتزج الخط العربي من طراز الثلث الجلي بزخارف إسلامية مستلهمة من مدارس الفن العثماني والفارسي، ليشكل هذا العمل تحفة تهمس للمشاهد بلغة الوجدان قبل البيان، لتبدو فيها الحروف وكأنها خرجت من محرابها لتؤدي نسكاً جمالياً، فالامتدادات المدروسة، والانحناءات المتوازنة، كتبت بخط بارز وتكوين مركزي، تعبيراً عن محور المعنى في الآية، فجاءت بانسيابية لينة في بدايتها، لتقابل في هدوئها وعد الزيادة في نهايتها.
تموضع نص الآية الكريمة، داخل دائرة بيضاء وسط الأرضية الذهبية، في اختيار رمزي يعكس رؤية الفن الإسلامي للعالم والكون، حيث الدائرة في الفلسفة البصرية الإسلامية ترمز إلى الكمال والوحدة والإشراق الإلهي، وما حولها من زخرفة شعاعية يوحي بانبثاق النور من عين الحقيقة، في إطار تجميلي متشابك مع روحانية المعنى، بوجود ثمانية محاور زخرفية، تتخذ شكلاً متناظراً يشبه في تكوينه قباب المساجد والقصور، بلون أزرق داكن، مزينة بخطوط زخرفية صغيرة مذهبة، وتشكيلات هندسية باللون الأحمر القاني، مختارة بعناية لتعكس رمزية دينية وروحية، فالأزرق يرمز إلى السمو والرحابة، والأحمر إلى الشغف والطاقة، والذهب إلى النور والخلود، ليثبت الخطاط في لوحته قدرته على تأطير المعنى الروحي في شكل بصري حي، يحتفي بآيات القرآن الكريم.
إبداع
كتب الفنان الآية الكريمة بخط الثلث الجلي، الذي يجسد السكينة والسمو في كل انحناءة واتساع، يعبر عن فضائل ترى وتحس وتتأمل، ليصبح الجمال بوابة للأخلاق، والحرف مرآة للقيم، ويرجع تفضيله للكتابة بهذا الخط إلى رغبته في تقديم عمل فني مميز، وبشكل تبرز فيه قابلية هذا الخط لمختلف أنواع التكوينات والتراكيب، وعلى الرغم من صعوبته وتعقيده، فإن جماله هو ما يغري الفنانين بالإقبال عليه، حيث يستفيد الفنان مما تتسم به خصائصه من مرونة، وإمكانية للتركيب المتناسق، والتشابك المدروس بين حروفه، لتتجلى فيه عبقرية الفنان المتمكن الذي يضبط تلك الخصائص والمميزات، لكي لا تؤثر طريقة خطها في وضوح الحروف والكلمات، لتبدو معها كلماته جلية، ومتناغمة مع التشكيل والتنقيط اللذين يزينان العمل، ويتِمان بهاءه، ليخرج مكتملاً للمشاهد كما نرى في هذه اللوحة الرائعة.
إضاءة
ولد الدكتور صلاح الدين شيرزاد في كركوك سنة 1948م، وتتلمذ في فن الخط العربي على كلّ من د. عبد الغني العاني، وهاشم البغدادي، وحامد الآمدي الذي نال على يديه الإجازة، ودرس فن الزخرفة، وأكمل دورة في الفن التشكيلي بجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، وهو حاصل على دكتوراه في تاريخ الفن الإسلامي من جامعة إسطنبول 1996، وعضو مؤسس في كلٍّ من جمعية الخطاطين العراقيين، وجماعة الخط العربي بالإمارات، وجمعية الحفاظ على الكتابة العربية بنيويورك، وعضو مشارك في جمعية الإمارات للفنون التشكيلية التي دَرَّس فيها الخط والزخرفة، كما درّسهما في معهد الخط العربي والفن الإسلامي، ومركز الخط العربي والزخرفة بالشارقة، وأقام معارض شخصية وجماعية في العديد من الدول، وفاز بجوائز عديدة.
عادي
في شاعرية البصر
الخط العربي.. الحروف تهمس بلغة الوجدان
6 يوليو 2025
00:01 صباحا
قراءة
3
دقائق
المزيد من الملف
عناوين متفرقة
قد يعجبك ايضا







