صفحة همنغواي الأخيرة

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

هناك من شكّك في القول المتداول عادة في الصحافة الثقافية، ومفاده أن (إرنست همنغواي أعاد كتابة الصفحة الأخيرة من روايته «وداعاً للسلاح» 39 مرّة)، لكن الحوار الذي أجراه جورج بلتمون، ونشر في ربيع 1958 في مجلة «باريس ريفيو» مع صاحب «الشيخ والبحر» يؤكد هذه المقولة التي تستعاد دائماً حين يجري الحديث حول الكتابة، وطقوسها، وأسرارها المخبأة بالضرورة في صدور الشعراء والروائيين الكبار في مثل قامة همنغواي الذي أكد في ذلك الحوار الذي مر عليه الآن أكثر من سبعين عاماً، أنه يعيد الكتابة كل يوم وصولاً إلى النقطة التي توقف عندها.
ويؤكد في الحوار أنه كتب الصفحة الأخيرة من «وداعاً للسلاح» 39 مرة قبل أن يرضى عنها، وهنا يسأله الصحفي: هل كانت فيها أي مشكلات تقنية؟ ما الذي كان يحيّرك فيها (يقصد الصفحة الأخيرة)، فيجيبه همنغواي على نحو بارد كما يبدو: ترتيب الكلمات ترتيباً صحيحاً.
هل حقاً، كان مجرد ترتيب الكلمات ترتيباً صحيحاً يحتاج إلى 39 مرة من الجهد والصبر والإعادة المملة، وخاصة بالنسبة لطبيعة روائي مثل همنغواي الذي يبدو من سياقات حياته أنه لم يكن صبوراً، وفي داخله نزق وجودي أدى به في نهاية أمره إلى الانتحار؟ صحيح أن الصفحة الأولى، والصفحة الأخيرة تستوقفان الكاتب طويلاً، ويجد صعوبة مشوبة بالتوتر في العادة حين يشرع في البداية، وحين يجلس ليضع الجملة الأخيرة في النهاية، لكن ليس كتّاب الرواية كلّهم مثل همنغواي، وإذا أردت، انظر ماذا كان يفعل فرناندو بيسَوَا الذي كان يكتب أحياناً وهو مستند إلى جدار أو في مقهى، متوارياً تحت العشرات من الأسماء المستعارة، ودائماً، الكتابة بلا طمأنينة.
واليوم، وراء إبراهيم الكوني نحو 100 كتاب في الرواية والقصة، وربما أكثر من هذا العدد، ولو جلس يعيد ويكرر في الصفحة الأولى أو الأخيرة عشرات المرات ليصل إلى ما يرضيه من جملة أخيرة، لما كتب كل هذه السردية المئوية من الروايات.
يضع الكاتب كل قوّته في الجملة الأولى، وفي الجملة الأخيرة، وفي الكثير من الأحيان يرضى هو عن ترتيب الكلمات ترتيباً صحيحاً كما كان يفعل همنغواي، غير أن طرفاً آخر هو القارئ يقول إنه لم يرض عمّا انتهى إليه الشاعر أو الروائي، وأن الصفحة الأخيرة ليست صفحته.
واليوم، أيضاً، وفي زمن الرواية، وكتّابها المتناسلين مثل النمل، وسرعتها في التأليف وفي الترجمة، لا يجد الكاتب وقتاً متاحاً له مثل وقت همنغواي أو غيره من الكتّاب الاسترخائيين، إن جازت العبارة، لأنهم كانوا يكتبون على مهل بالقلم أو بالآلة الكاتبة من دون لهاث وسباق مسافات طويلة ليحصلوا على جوائز أدبية وترجمات تجارية تدرّ الأموال.
البعض يكتب اليوم، بانتظام، على الكمبيوتر، وما إن ينتهي من الرواية تصدر في أيام قليلة إن لم تصدر في ساعات، بصرف النظر عن ترتيب الصفحة الأخيرة، صفحة همنغواي.
[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"