حكم الاحتكار في التشريع الإسلامي

03:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمود أبو زيد الصوصو

اهتم الإسلام بحياة الفرد والمجتمع، فلم تقف تعاليمه عند تنظيم العلاقة بين العبد وربه في العبادات فحسب، بل تناول الشؤون الدنيوية في المعاملات، ومنها حفظ حقوق الناس في جميع شؤونهم، حيث إن حفظ المال من مقاصد الإسلام الخمسة.
والإسلام يسعى في تشريع أحكامه إلى جعل المجتمع الإنساني مجتمعًا متكاملًا يقوم على التكافل الاجتماعي، وينعم بالأمن والاطمئنان، ويسلم من الخلافات والآفات، ولكن في هذا العصر نرى أنَّ الماديات طغت على بعض الناس، وانتشر الجشع وجمع المال بينهم، فكان منها الاحتكار الذي نهى عنه الإسلام.
فما هو الاحتكار؟ وما حكمه في التشريع؟ وما وسائل منعه؟
الاحتكار هو إمساك ما اشتراه التاجر وقت الغلاء ليبيعه بأكثر مما اشتراه عند اشتداد الحاجة.
ولهذا فإنَّ الاحتكار لا يكون إلا فيما يضر بالناس حبسه.

ظلم واستبداد

إنَّ الاحتكار يحمل كل معاني الظلم والاستبداد والحبس المؤدي إلى الإضرار بالناس وهو عام يشمل القوت وغيره، متى وجد سببه، ولهذا أجمع العلماء على أنَّ الاحتكار منهي عنه في التشريع الإسلامي لما فيه من الإضرار بالناس، والتضييق عليهم، واتفقوا على أنَّه محرم، واستدلوا بقول الله تعالى: ﱡ «ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم»، (الحج: 25).
وذكر الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية أنَّ أبا داود روى عن يعلى بن أمية أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه). وهو قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
واستدل علماء الحنابلة على التحريم بما رواه الأثرم عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطعام، وما روي عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (منْ احتكر فهو خاطئ).
وروي أنَّ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج مع أصحابه، فرأى طعامًا كثيرًا قد ألقي على باب مكة، فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: جلب إلينا، فقال: بارك الله فيه وفيمَنْ جلبه، فقيل له: فإنَّه قد احتكر، فقال: مَنْ احتكره؟ قالوا: فلان مولى عثمان، وفلان مولاك، فاستدعاهما، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ احتكر على المسلمين طعامهم لم يمت حتى يضربه الله بالجذام أو الإفلاس).
أما علماء الأحناف وبعض الشافعية فقالوا عنه بالكراهة إذا كان يضر بالناس.
ورأي الأحناف بالكراهة على سبيل الإطلاق ينصرف إلى الكراهة التحريمية، وفاعل المكروه تحريمًا عندهم يستحق العقاب، كفاعل الحرام.
كما أَنَّ مصادر الشافعية التي روت القول بالكراهة قالوا: ليس بشيء.
ومما تقدم: أجمع العلماء القدامى والمعاصرون على أنَّ الاحتكار محرم إذا توفرت القيود التي ذكروها في بيانهم للاحتكار، لما فيه من التضييق على الناس والضرر بهم.

وسائل منعه

اختلف العلماء في قولهم كيف يجري الاحتكار على رأيين:
الرأي الأول: قول المالكية وأبي يوسف من الأحناف: أن الاحتكار يجري في كل ما يحتاجه الناس، ويتضررون من حبسه من قوت ولباس وغير ذلك.
واستدل أصحاب هذا الرأي بالأحاديث الواردة في النهي عن الاحتكار ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من احتكر طعاماً أربعين ليلة، فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً، فقد برئت منهم ذمة الله ).
ومنها كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ احتكر يريد أنْ يتغالى بها على المسلمين، فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله).
الرأي الثاني: قول الأحناف والشافعية والحنابلة: أنه لا احتكار إلا في القوت خاصة. واستدل أصحاب هذا الرأي بالأحاديث الواردة في النهي العام عن الاحتكار ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ احتكر فهو خاطئ).
ومنها كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ احتكر على المسلمين طعامهم لم يمت حتى يضربه الله بالجذام أو الإفلاس).
والرأي الراجح على ما تقدم هو الرأي الأول لأنه يوافق الحكمة في تحريم الاحتكار، ورفع الضرر عن الناس.
لأجل ذلك فقد أجمع جمهور العلماء على أنَّ للحاكم إجبار المحتكر على البيع، وأنْ يؤدبه على احتكاره، ولو كان ذلك بإحراق أمواله، فقد روي عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أحرق طعامًا احتكر بمائة ألف.
وعلى ما تقدم نخلص إلى القول: أن من أهم الوسائل التي تساعد على منع الاحتكار منافسة المحتكرين فيما يبيعونه لئلا يستطيعوا بسط نفوذهم، وتحقيق مآربهم الشخصية، فقد كان
الخليفة ببغداد إذا غلا السعر أمر بفتح مخازنه، وأن يباع مما يبيع الناس حتى يرجع السعر إلى القدر الذي يصلح للناس ويغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل، وكان ذلك من حسن نظره، فمنافسة المحتكر على السلعة التي احتكرها من الوسائل الناجعة التي استخدمها السلف الصالح في منع الاحتكار والتوسيع على الناس، ويمكن للجهات المعنية أن تنتهج هذه السياسة لأجل منع المحتكرين، وإرجاع السعر إلى القدر المعقول الذي يستطيعه عامة الناس، سواءً كان الاحتكار بالبيع، أي اشتراك الباعة أو تواطؤهم على البيع بثمن مرتفع. أو كان الاحتكار بالشراء، وهو اشتراك المشترين أو تواطؤهم على الشراء بثمن منخفض.
ونختم البحث بالفائدة النبوية التي تعم بالخير على المجتمع الإنساني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كان عنده فضل زاد فليعد به على مَنْ لا زاد له).

أستاذ المعاملات المالية في جامعة طيبة - المدينة المنورة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"