“باروخ” في شباك الجاسوسية 50 عاماً

وثق بالموساد واعتقد أنه لن يكشفه أحد
14:08 مساء
قراءة 9 دقائق

في الزنزانة رقم 6 بأحد سجون مصر، كان هناك رجل قصير القامة، ممتلئ إلى حد ما، أبيض البشرة غزير الحاجبين، يدخن سجائر مصرية بنهم شديد، كانت عيناه تشردان أحيانا ويحملق في السقف كثيرا، ثم يبتسم ابتسامة لا معنى لها، متذكرا اللحظة الفارقة في حياته حين غادر مصر في فبراير/ شباط عام 1957 على سفينة قطعت البحر من الإسكندرية إلى أحد موانئ أوروبا. كان الرجل الذي قضى طفولته وشبابه في مصر، يجيد الحديث بالعامية المصرية والعربية الفصحى، يطلب ورقة وقلما، وفي استغراق تام أخذ يكتب: إلى مدير المخابرات الإسرائيلية.. أكتب لك هذا الخطاب من الزنزانة التي أقيم بها في السجن في مصر، لأقضي مدة الحكم التي حكم بها عليّ وهي نهاية عمري.

لقد كانت العبارة المستديمة للضابط الذي كان يقوم بتشغيلي أن المخابرات الإسرائيلية أعظم مخابرات في العالم، وأنك إذ تعمل معها فلن تكتشف إطلاقا، وأنه لا يوجد أي جهاز مخابرات في البلاد التي ستعمل فيها يستطيع كشفك أو كشف وسائلنا.

ويكفي يا سيادة المدير أن أبلغك بأنني قد اكتشفت في اليمن.. وكفى.

وفي خطاب آخر كتب: عزيزتي مرجريت.. إني في حالة حسنة، وأتعشم أنكم كذلك في حالة طيبة، كيف حالك؟ وكيف حال الأولاد؟ أرجو ألا تنسوني وادعوا لصالحي كثيرا، ولك كثير من القبلات، وبالمثل للأولاد.

كان التوقيع على الخطابين يحمل اسم باروخ زكي مزراحي وهم اسم الرجل الذي كان يجلس حبيسا في زنزانة مصرية في العام ،1973 الذي هاجر من مصر ليستقر في إسرائيل، ومن ثم يكتشف أن المخابرات العامة المصرية كانت تعرف أدق التفاصيل عنه وعن رحلاته إلى بروكسل وكينيا وعدن والحديدة.

في العام 1933 كان باروخ تلميذا صغيرا يدرس العربية والإنجليزية والفرنسية في مدرسة الفرير، التي كانت تضم طلبة معظمهم مسيحيون، والقلة منهم يهود ومسلمون، كان عمره آنذاك سبع سنوات، أبوه أحد التجار وكان صاحب محل دخان في شارع كلوت بك.

مات أبوه وهو في هذه السن، فتعرضت الأسرة لأزمة مالية خطيرة، اضطرت الأم إلى العمل خياطة داخل المنازل، إلى أن تخرج في كلية التجارة جامعة القاهرة عام ،1948 بعد أن حصل على التخصص في شعبة المحاسبة، لكنه كان يعمل أثناء دراسته في الجامعة، عمل في شركة سمسرة ببورصة الأوراق المالية بالقاهرة، ثم عمل بعد تخرجه محاسبا ومترجما للمراسلات في شركة لاستيراد المعلبات والموتورات، وفي أوائل العام 1950 عمل في شركة للأدوية، وظل يعمل بها عشرة شهور حتى عين مدرسا لتعليم اللغة الفرنسية في مدرسة الأقباط الكبرى الثانوية بالقاهرة، وكان عمله في هذه المدرسة ينتهي في الواحدة ظهرا، ليعمل بعد ذلك في مدرسة ابتدائية حتى الرابعة ظهرا.

كان يشعر بالأمان المالي، حتى إنه جعل أمه تستريح من العمل، ليتكفل بنفقات أسرته المكونة من أخته ايفيت وأخيه الأصغر ماير، لم تكن هناك تعقيدات في حياته حتى التقى فورتينيه فقلبت حياته رأسا على عقب، كان ذلك في عام ،1955 كان قد اقترب من الثلاثين من غير أن يعرف امرأة، حتى التقى فورتينيه مدنية كزميلة له في المدرسة الابتدائية، من يومها لم يعرف طعم الراحة.

على مدى عامين ظلت تعذبه بجمالها، إلى أن قرر أن يفاتحها في أمر الزواج، وكانت الصدمة الأولى حين فاجأته بأنها أعدت أوراق سفرها وأختين لها، لقد أرسل أبوها يطلب منها أن تلحق به في إسرائيل، فحكى لها عن تجربة أخيه ماير الذي غادر مصر بحثا عن المغامرة ووصل إلى إسرائيل عام ،1950 ولم يكن هناك بيوت للمهاجرين سوى الخيام وأنه أقام في خيمة مشتركة مع آخرين تحت أسوأ الظروف، حدثها عن أنه عمل في الزراعة، والتحق بالجيش، ليعمل في أحد المطارات براتب ضئيل بالكاد يكفي أسرته المكونة من أربع بنات وزوجة عراقية.

ولما كانت فورتينيه مصرة على الهجرة لم يجد باروخ بداً من ذلك وبدأ يستعد للسفر، ففي يناير/ كانون الثاني 1957 قدم استقالته من الأماكن التي كان يعمل بها، ثم ذهب إلى مبنى المجمع بميدان التحرير وفي قسم الجوازات طلب التصريح بالهجرة، وفي يوم 6 فبراير/ شباط 1957 كان يستقل الباخرة اليونانية التي غادرت الإسكندرية إلى ميناء بيريه ليركب بعد ذلك أحد الأتوبيسات التي أعدتها الوكالة اليهودية، لنقل الجميع إلى أحد الفنادق لتختفي فورتينيه.

وبعد عشرة أيام ظهر ثلاثة من أعضاء الوكالة اليهودية، لينهوا ترتيبات سفر الجميع إلى إسرائيل، وهناك كان في انتظار باروخ وأمه الإقامة في مزرعة جماعية، وفي حيفا كان عليه أن يودع الفتاة التي قادته إلى هذا المكان، وأمام المزرعة كان على باروخ أن يودع أمه لتعمل مع السيدات اللاتي يعملن في الحياكة، ليجد نفسه قد تحول إلى فلاح أجير.

وبعد فترة وصل إلى المزرعة خطاب عبارة عن استدعاء لباروخ من مكتب ابرهامي لجمع المعلومات عن الشرق الأوسط في تل أبيب، وهناك طلب منه المعلومات عن مصر، وكان باروخ يستعين بما قرأه في الصحف المصرية أو ما كان يسمعه من الناس والإذاعة، ثم سأله الضابط هل أنت سعيد في المزرعة؟ وأجاب الضابط نفسه: طبعا لست مرتاحا، بعد قليل سنستفيد منك في مكان آخر.

وبعد أيام وصله خطاب من إدارة البوليس بتعيينه رجل شرطة في حيفا، وهناك التقى بمرجريت، التي تزوجها، كانت فورتينيه قد تزوجت برجل أعمال ثري، ليتأقلم باروخ فيما بعد مع وضعه الجديد، وينجب ولدا وبنتا، إلى أن فاجأه رئيسه في العمل بترشيحه للعمل في المخابرات، وكانت مهمته تتبع كل قادم إلى إسرائيل.

وأثبت باروخ كفاءة في عمله خلال تسعة أشهر حتى طلبه رئيسه في العمل يوماً وقال له عندك موعد في مقهى فيرد الساعة السادسة مساء، وهناك التقى شابا عمره حوالي 30 عاما، عرف نفسه بأنه موظف في المخابرات الخارجية، وأنه اختار باروخ للعمل مترجما من العربية إلى العبرية في وزارة الخارجية، واتفقا على أن يلتقيا في موعد آخر، وفي الموعد تم تحديد المهمة الحقيقية التي سيقوم بها باروخ، بدأ الحديث عن إقامة علاقات تجارية مع بعض الدول العربية في الشرق الأوسط، وأنه سيدير مكتبا في هولندا للتصدير والاستيراد، وفهم باروخ أن هذا هو الستار الذي سيعمل من ورائه، وبالتالي أصبح ضابطا في المخابرات برتبة نقيب.

تلقى باروخ تدريبات طويلة في التعقب والكتابة بالحبر السري، وعلى طريقة المعيشة في أوروبا، كما أخذ دروسا في تفاصيل المعاملات التجارية وأصول الاستيراد والتصدير ونظام التوكيلات التجارية.

ولبث مزيد من الاطمئنان في نفسه أبلغه الضابط المكلف بتدريبه: رجالنا يتخرجون للمهمة وهم معدون مائة في المائة ولو ساورنا الشك لحظة في أن أحدا مهما بلغت قدرته يستطيع أن يكشف جزءا من المخطط فإننا نلغي هذه المهمة.

وتم إبلاغه عقب انتهاء دورته التدريبية بأنه سيسافر إلى بروكسل، وكانت آنذاك مركزا رئيسيا للمخابرات الإسرائيلية في أوروبا، وتحت سواتر مختلفة أنشئت منظمات تابعة له، وروعي أن تكون في الدول التي يتردد عليها العرب بصفة عامة والمصريون بصفة خاصة للدراسة أو العمل أو العلاج، ويعمل بهذه المنظمات ضباط مخابرات إسرائيليون واجباتهم منحصرة في تشغيل اليهود من جنسيات مختلفة في أعمال المخابرات، فإقامة اليهود في هذه الدول وتمتعهم بجنسياتها، وممارستهم لأعمال تجارية أو حكومية يحقق للمخابرات ضمان ولائهم واستخدام المؤسسات المملوكة لهم كمراكز متقدمة لنشاطهم وتجنيد الصالح منهم في مراكز حساسة بهذه الدول لخدمة الأغراض الإسرائيلية.

ويقوم هؤلاء الضباط بتكوين شبكات للمخابرات الإسرائيلية في هذه الدول لجمع المعلومات عن علاقة هذه الدول بمصر والدول العربية، وقد شهدت ألمانيا الغربية حلقات مثيرة هي تتمة لما كان يجري في مصر، فقرب مدينة كولونيا خرج د. كلاينفتشر الذي كان يقضي إجازته في قريته هناك قادما من مصر حيث كان يعمل ضمن العلماء الألمان في مشروع تطوير الصواريخ.

وفجأة برزت خلفه سيارة مسرعة لمحها في المرآة الموجودة أمامه وكان بها رجلان، ولم تكد تقترب منه حتى أخرج أحد راكبيها مسدسه، وبسرعة البرق شعر الدكتور كلاينفتشر بالخطر، فضغط بكل قواه على البنزين وأحنى رأسه قليلا لتفادي الرصاص، وبعد مطاردة عنيفة اختفت السيارة حين وصل الدكتور إلى مشارف قريته لينجو من الموت.

وفي الوقت الذي كان يقص فيه الدكتور ما حدث على رجال الشرطة كانت ميونيخ مسرحا لعملية اختفاء غامضة تعرض لها عالم ألماني يدعى الدكتور كروج كان هو الآخر عائدا من مصر ليقضي إجازته مع عائلته في ألمانيا، ومضت الأيام بباروخ في بروكسل وهو في تدريب متصل لمعاينة شوارع المدينة وبعض المقاهي والكازينوهات، وتصوير أهداف في بعض معسكرات حلف الأطلنطي، كما تدرب على التعقب في الشوارع، وحضر عملية تنصت أجرتها المخابرات الإسرائيلية لمقابلة بين أحد الضباط وشخص بلجيكي في أحد المحلات العامة في بروكسل.

وهناك اندمج باروخ مع المصريين، وفتح معهم حوارات في موضوعات كثيرة، على أنه مصري مثلهم يدرس في الخارج، وانتهت مهمته بنجاح، ليعود إلى تل أبيب، وفي اجتماع مهم في مبنى المخابرات، بدأ نائب رئيس المخابرات قائلا لباروخ: إن المخابرات الإسرائيلية تعلق آمالا كبيرة على نجاحك في هذه المهمة، ورئيسة الوزراء شخصيا مهتمة بما ستحققه من نتائج، فبقدر ما تحققه من نتائج سيمكن لدولتنا أن تجد علاجا لهذا الصداع الذي يؤرقنا دائما وهو نشاط هؤلاء الإرهابيين الذين يسمون أنفسهم فدائيين.

وكان باروخ معدا إعدادا كاملا على أن يسافر إلى البلاد العربية بوصفه تاجرا عربيا مسلما، وسيسافر إلى عدن ثم اليمن الشمالية، ومهمته تنحصر في تجميع المعلومات عن هذه البلاد، وتتبع نشاط جبهة التحرير الفلسطينية فيها، لمعرفة كل تحركاتهم، وهل هناك فدائيون يتدربون على ضرب ناقلات البترول الإسرائيلية في البحر الأحمر. كان باروخ كتاجر عربي وسائح سيأخذ معه كاميرا وقد درب على كيفية التقاط الصور للأهداف المهمة، كان اسمه أحمد الصباغ ويحمل جواز سفر مغربيا، وفي أحد فنادق عدن كان موظف الاستعلامات يستقبل الصباغ أو باروخ بابتسامة قائلا: شرفت عدن يا سيد أحمد، وناوله مفتاح غرفته، وبعد أن استراح قليلا، نزل ليتجول في الشوارع، وكان أول شيء فعله أنه صلى صلاة جماعة في مسجد قريب من الفندق.

كان يتعمد أن تكون صلاته التي تدرب عليها في المسجد الذي يتردد عليه أغلب نزلاء الفندق، وأصبح موظف الاستعلامات بالتدريج صديقا له، وفتح الطريق أمامه لمعلومات عن الفدائيين.

وكل صباح كان باروخ يعلق الكاميرا على كتفه في شوارع عدن، يتأمل كل شيء كسائح ويلتقط الصور التذكارية للميناء وبعض الشوارع المهمة في عدن، دون أن يساور أحد الشك في تصرفاته، وفي الليل كان يجلس مع رواد الفندق يثير أمامهم أحاديث بطريق غير مباشر، وكانت المعلومات تنهمر عليه كالمطر، وكان لابد أن تصل المعلومات والصور إلى تل أبيب وحسب التعليمات أخذ طريقه إلى كينيا ليلتقي أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية ويسلمه الصور، ويعرف مهمته الجديدة.

وطلب منه السفر إلى صنعاء (اليمن الشمالية) ثم إلى الحديدة وكان تركيزه على نشاط الفدائيين ومنظماتهم، وكانت الخطة المرسومة أن ينهي المهمة في الحديدة ويأخذ طريقه إلى أديس أبابا لكنه قبل أن يغادر الحديدة قرر أن يقوم بجولته الأخيرة على الساحل، بعد أن لاحظ تحركات كثيرة في الميناء، وعاد إلى الفندق، ولم يكد يستقر في غرفته حتى سمع طرقا على باب الحجرة، وعندما فتح وجد شابين بالملابس العادية، يطلبان منه أن يصحبهما، بعد أن قاما بتفتيش الحجرة وأخذا بعض محتوياتها، كانا من رجال المخابرات اليمنية.

وبدأ التحقيق مع باروخ رغم احتجاجاته كمواطن عربي إلى أن فتشه أحد الضباط وعثر في جيبه على رسومات كروكية لبعض المواقع العسكرية في ميناء الحديدة، وانتهى التحقيق باقتياده إلى صنعاء، وواجهه المحقق بالرسومات الكروكية للميناء ومقار إحدى المنظمات الفدائية، وطلب منه تعليلا لوجود هذه الرسوم معه، واستمر في ملاحقته بالأسئلة على مدى عشر ساعات.

وفي اليوم التالي كان يحقق معه شخصان، واستمر في المقاومة قائلا: لست أفهم لم تعاملون مواطنا مغربيا شقيقا هذه المعاملة؟ أرجو أن تمكنوني من الاتصال بحكومتي فقال له الضابط: لقد اتصلنا بحكومتك، وهذا تقرير يؤكد أنه لا يوجد من رعايا المغرب شخص اسمه أحمد الصباغ ويعمل في التجارة، وهذا معناه أن جواز سفرك مزور، كل ما نريد أن نعرفه لماذا جئت إلى هنا؟.

عندئذ ادعى باروخ أن اسمه الحقيقي يوسف سالم وهو مسيحي، وأراد أن يدخل اليمن بهذا الجواز كتاجر مسلم حتى يجد تسهيلات لصفقاته التجارية، وكان بالغرفة رجل نحيف قال بصوت خافت وبعامية أرى أن يستريح الشيخ أحمد أو يوسف قليلا وبعد ذلك نرى ما يمكن عمله أشار له المحقق بالانصراف، وما إن استدار باروخ منصرفا حتى سمع صوت الرجل النحيف يناديه: اسمع يا باروخ.

كان الصوت أشبه بقنبلة انفجرت في الحجرة فاستدار باروخ بلا وعي، وبخطوات متثاقلة ارتمى على الكرسي، عندئذ قام الرجل النحيف ليناوله أوراقا وقلما قائلا: اسمع يا باروخ.. المخابرات المصرية تعرف عنك كل شيء ومن زمن بعيد لا تحاول إخفاء أية تفاصيل، اكتب هنا كل شيء بصراحة بعد يومين من كتابة اعترافه، نقل إلى القاهرة، ليبلغه المحقق بخبر ولادة ابنة له.

وكانت التحقيقات تتركز حول وجود سفن عسكرية مصرية من عدمه، وثبت أنه لم تكن هناك سفن مصرية وربما هذا ما خفف الحكم عليه ليصدر ضده حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة وليكتب رسائله التي أشرنا إليها وبينها رسالة إلى أمه يقول فيها: أمي العزيزة.. ليتني استمعت إلى نصيحتك.. أكتب إليك من مصر التي بكيت أنت يوم تركناها، لقد رفضت مصر على اتساعها وجمالها وساقتني حماقتي إلى جزء صغير مظلم في أحد سجونها.. دعواتك يا أمي. ابنك السجين

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"