هيمنة الكبار أفسدت الاقتصاد.. فهل من مصلح؟

00:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
جوزيف ستجلتز *


أدى «الإصلاح» الضريبي الذي وضعه ترامب والجمهوريون إلى تفاقم أوجه القصور الحالية في قانون الضرائب، مما أدى إلى تحويل المزيد من المكاسب للشريحة الأولى الأعلى دخلاً.
تعاني الاقتصادات المتقدمة في العالم من عدد من المشكلات العميقة الجذور. ففي الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، يبلغ التفاوت الطبقي أعلى مستوياته منذ عام 1928، ولا يزال النمو الاقتصادي فاترًا مقارنة بالعقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.
وبعد نمو سنوي واعد بنسبة «4 أو 5، وحتى 6٪»، تسبب الرئيس دونالد ترامب وداعموه من الجمهوريين في الكونجرس، بعجز غير مسبوق في الموازنة الفيدرالية سيصل إلى 900 مليار دولار هذا العام، وفقًا لآخر التوقعات لمكتب الميزانية بالكونجرس، وسوف يتجاوز حاجز تريليون دولار كل عام بعد 2021.
يضاف إلى ذلك أن مؤشرات الأداء الاقتصادي الفائق الناتج عن الزيادة الأخيرة في العجز يتلاشى تدريجياً، حيث توقع صندوق النقد الدولي نمو الولايات المتحدة بنسبة 2.5٪ في عام 2019 و1.8٪ في عام 2020، مقارنة مع 2.9٪ في عام 2018.
من المتفق عليه بشكل عام أن ارتفاع معدلات التفاوت الطبقي وبطء النمو الاقتصادي عاملان رئيسيان وراء انتشار السخط العام في الاقتصادات المتقدمة، وخاصة في الولايات المتحدة. لكن هذه المشكلات هي بحد ذاتها أعراض مرض خبيث؛ قد يتعذر على النظام السياسي الأمريكي معالجته. وأدى «الإصلاح» الضريبي الذي وضعه ترامب والجمهوريون إلى تفاقم أوجه القصور الحالية في قانون الضرائب، مما أدى إلى تحويل المزيد من المكاسب للشريحة الأولى الأعلى دخلاً. وفي الوقت نفسه، لا تزال العولمة تدار بشكل سيء، ولا تزال الأسواق المالية تجتهد لجني المزيد من الأرباح بدلاً من تقديم خدمات مفيدة.
لكن المشكلة الأعمق والأكثر جوهرية هي التمركز المكثف لقوى السوق، والذي يسمح للشركات المهيمنة باستغلال عملائها والضغط على موظفيها، الذين تضعف قوتهم التفاوضية وتتآكل فاعلية النصوص القانونية التي تحميهم. وهذا ما تعكسه المكاسب المتلاحقة التي يحصل عليها كبار المديرين التنفيذيين والدائرة الضيقة من حولهم على حساب العمال والمستثمرين.
على سبيل المثال، حرص المسؤولون التنفيذيون في الشركات الأمريكية على أن تتحول الغالبية العظمى من الفوائد الناتجة عن التخفيض الضريبي إلى مكاسب في الأسهم وعمليات إعادة شراء الأسهم، والتي تجاوزت مستوى قياسيًا بلغ 1.1 تريليون دولار في عام 2018. وأدت عمليات إعادة الشراء إلى رفع أسعار الأسهم وعززت نسبة الأرباح للسهم، التي يستند إليها تعويض العديد من المديرين التنفيذيين.
والأدلة على تمركز قوى السوق وتكالبها متوفرة في أي مكان. فالعلامات التجارية الكبيرة تعزز ارتفاع أرباح الشركات في كل قطاع، بدءاً من القطاعات الصغيرة مثل طعام القطط إلى الكبيرة مثل الاتصالات وشركات الطيران والمنصات التكنولوجية، وتسيطر ثلة من الشركات الكبيرة على 75٪ إلى 90٪ من السوق؛ وتبدو المشكلة أكثر وضوحاً على مستوى الأسواق المحلية. ومع زيادة هيمنة الشركات الضخمة على الأسواق، زادت قدرتها على التأثير في السياسة الأمريكية التي تحركها الأموال. وبما أن النظام أصبح أكثر تشددًا لصالح الشركات، فقد صار من الصعب على المواطنين العاديين الحصول على تعويض عن التجاوزات التي يتعرضون لها أو سوء المعاملة.
وربما يكون الدليل الأفضل على ذلك في انتشار التحكيم في عقود العمل واتفاقيات المستخدمين، والتي تسمح للشركات بتسوية المنازعات مع الموظفين والعملاء من خلال وسيط متعاطف، وليس في المحكمة.
وهناك مجموعة من العوامل تعزز هيمنة العمالقة، أبرزها نمو القطاعات التي لها تأثير كبير على الشبكة العالمية، حيث يمكن لشركة واحدة مثل «جوجل» أو «فيسبوك»، أن تبسط سطوتها على قطاعها بسهولة. والأمر الآخر هو القناعات السائدة في أوساط قادة الشركات الذين يعتقدون أن الهيمنة على السوق هي الطريقة الوحيدة لضمان أرباح دائمة.
لقد أظهر بعض قادة الشركات، براعة نادرة في خلق حواجز في السوق لمنع أي نوع من المنافسة المجدية، مدعومين بتراخي قوانين المنافسة الحالية والفشل في تحديث تلك القوانين، بما يناسب اقتصاد القرن الحادي والعشرين. ونتيجة لذلك، تستمر حصة الشركات الجديدة والناشئة، في الانخفاض.
من الواضح أن كل ما سبق هو نذر شؤم على الاقتصاد الأمريكي. فاتساع فجوة التفاوت الطبقي تعني انخفاض الطلب الكلي، لأن أولئك الذين يتصدرون توزيع الثروة، يميلون إلى استهلاك حصة أقل من دخلهم بالمقارنة مع الشريحة التي تشكل قاعدة الهرم الاستهلاكي.
وفي جانب العرض، تضعف هيمنة الكبار على السوق حوافز الاستثمار والابتكار. فالشركات تعرف تماماً أنه إذا زاد الإنتاج، فسيتعين عليها خفض أسعارها. لهذا السبب يظل الاستثمار ضعيفًا على الرغم من الأرباح القياسية للشركات الأمريكية وتكدس تريليونات الدولارات من الاحتياطيات النقدية.
ثم ما الذي يحفز الشركات على إنتاج شيء ذي قيمة، عندما يمكنها استغلال قوتها السياسية لتحقيق المزيد من العائد من خلال استغلال السوق؟ فالاستثمارات السياسية في تخفيض معدلات الضرائب تحقق عائدات أعلى بكثير من الاستثمارات الحقيقية في المصانع والمعدات.
ومما فاقم تعقيدات الاستثمار، أن نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي المنخفضة (كانت 27.1 في المئة قبل تخفيضات ترامب الضريبية ) - يعني ندرة الأموال للاستثمار في البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية والبحوث الأساسية اللازمة لضمان النمو في المستقبل. مثل هذه الإجراءات في جانب العرض هي التي تعود بالفائدة عملياً على الجميع.
لقد بات خلل معالجة سطوة الكبار على السوق واضحاً تماماً. فخلال نصف القرن الماضي، ضيق خبراء الاقتصاد نطاق تركيز سياسة المنافسة على الكفاءة الاقتصادية، بدلاً من المخاوف الأوسع نطاقًا حول القوة وعدم المساواة، استناداً إلى فرضية أن الأسواق قادرة على المنافسة عمومًا. والمفارقة هنا في أن هذا الافتراض أصبح مهيمناً في دوائر صنع السياسة عندما بدأ الاقتصاديون يكتشفون عيوبه.
ولا بد للقانون من أن يتطور بما يكفي لمواجهة كل تلك المستجدات، بحيث تعتبر كل الممارسات المعرقلة للمنافسة الحرة خروجاً على القانون يستوجب العقاب. علاوة على ذلك، هناك مجموعة من التغييرات الأخرى اللازمة لتحديث تشريعات مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة. وهذا يتطلب من المواطنين الأمريكيين تصميماً وعناداً لا يقل عن عناد الشركات التي حاربتهم من أجل أن يتمكنوا من مواجهتها.
الحقيقة أن التحدي يتخذ طابعاً سياسياً. وفي ظل تمركز قوة الشركات الأمريكية وتكثيفها، صار الشك في قدرة وصلاحية النظام السياسي ونزاهته مبرراً. وفي ظل قيادة ترامب اتجاهات تغيير نظام التجارة العالمي، بات مطلوباً من الاتحاد الأوروبي أخذ زمام المبادرة.


* أستاذ في جامعة كولومبيا وحائز نوبل في الاقتصاد

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"