أثناء الغيبوبة وبعدها

00:24 صباحا
قراءة دقيقتين

أعرف صديقاً دخل في غيبوبة استمرت أكثر من شهر، ثم خرج منها سالماً، وحين طلبت منه بعد أن استعاد لياقته، أن يشرح لي كيف كان وضعه أثناءها: هل كان يفكر؟ أو يسمع ما يدور حوله من أصوات، أجاب بالنفي. قال إنه لا يتذكر شيئاً، وإن الأمر أشبه بحلم يراه أحد في المنام، لكنه ليس فقط لا يتذكر ما هو الحلم، وإنما لا يتذكر أنه حلم بشيء أصلاً.
قال أيضاً إنه لم يشعر بمرور الوقت الذي استغرقته غيبوبته، كأن الإحساس بمرور الزمن عنده قد توقف، ما يجعلنا نصاب بالدهشة والفضول عن «العالم» الذي يذهب إليه من يدخل الغيبوبة، ثم يعود ثانية إلى الحياة التي كان يعرف.
يبدو الأمر أكثر مدعاة للفضول حين يكون من دخل الغيبوبة كاتباً، كما هو حال الكاتبة الفرنسية مارجريت دوراس، صاحبة الأعمال الروائية والمسرحية والسينمائية التي دخلت في غيبوبة استمرت أشهراً، ثم أفاقت منها، حيث حاورها أحد المحررين الثقافيين عن تجربتها في الغيبوبة وبعدها.
يذكر أن الكاتبة أصدرت بعد عودتها من الغيبوبة رواية «أمطار الصيف»، والحوار المشار إليه أجري بعد صدور الرواية، حيث سألها محاورها: «منذ أن عدت إلى الحياة العامة والناس ينظرون إليك وكأنك شبح يعود من مكان بعيد، فما هو شعورك بعد صحوك من موتك الأول»؟ 
على خلاف صديقي الخارج من غيبوبة وقال إنه لا يتذكر شيئاً، قالت مارجريت داروس، إن الغيبوبة حين تخرج منها، لا تترك سوى ذكريات، والمدهش هو «أنه في وقت فقدان الوعي يتم تذكّر لحظات الحياة بدقة هذيانية مذهلة»، لكن الأصعب، كما قالت، هي مسألة عودة الوعي؛ لأنها لم تعد تعرف كيف تمشي.
هل يصبح الفكر أثناء الغيبوبة أسير الجسد غير القادر على التجاوب معه؟ جواب داروس كان بالنفي، فالرهيب  بالنسبة لها  هو أنك أثناء فقدان الوعي تعتقد أنك تتكلم، في حين أن شفاهك لا تتحرك، وكانت تشعر بالغضب، لأن لا أحد يجيبها عن ما تقوله أو تسأل عنه؛ بل إن غضبها يكون أشد حين تسمع أحدهم يقول: نعم، بينما هي تتوقع أن تكون الإجابة ب«لا».
من يخاطبها لا يسمع ما تقول؛ لأنها أصلاً لم تقل شيئاً، بينما هي تحسب أنها تتحدث وتنتظر الإجابة.
أبلغ عبارة قالتها دوراس هي التالية: «عندما أغضب ممن حولي، فإن غضبي يظل أبكم». عبارة لا تصف حال من هم في غيبوبة فحسب؛ وإنما أحوال ملايين البشر الغاضبين الذين هم في كامل وعيهم، ولكن غضبهم يبقى أبكم.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"