عِقد «الفوضى الخلّاقة» ومآسيه

00:35 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

كانت البلاد العربية مسرحاً لإعصار سياسي عنيف، هز أركان اجتماعها المدني والسياسي، طوال العقد الثاني من هذا القرن، واستمرت عواصف منه تضرب بلداناً مثل سوريا والعراق وليبيا. ثم ما لبثت موجة ثانية من ذلك الإعصار أن ضربت بلداناً أخرى جديدة، في العامين الماضيين، مثل الجزائر ولبنان والسودان. ولكن بينما انتهت في اثنين منها (الجزائر، السودان) إلى إسقاط الرئيس وطغمته القريبة - دون النظام - لم تُسقِط رئيساً أو نظاماً في لبنان بقدر ما أسقطت بلداً ودولة.

 لقد أطلقوا على الإعصار ذاك، في الإعلام الغربي والإسلامي وبعض الإعلام اليساري والليبرالجي، اسم «الربيع العربي». وهو «ربيع» من نوع خاص حقاً؛ يُنْبِت القَتلة وقُطّاع الطرق وفقهاء الفتنة والمغامرين بشعوبهم وأوطانهم؛ يأتي على الأخضر واليابس ليزرع الفوضى ويحصد الرؤوس. ولقد دمّر إعصار ذلك «الربيع» المشؤوم كل شيء: النسيج المجتمعي الذي حاكَتْه دهور من التّفاعل الإنسانيّ والعيش المشترك؛ وحدة الوطن وسيادته وقد تَحصَّلتا بالتّضحيّات وبدماء شهداء التّحرّر الوطنيّ والاستقلال؛ وحدة الدّولة التي استحالت دويلات أهليّة؛ مكتسبات عقودٍ من الزّمن تبدّدت في سنوات معدودات؛ مقدّرات اقتصاديّة دُمِّرت ونُهِب منها ما نُهب؛ ناهيك عن أرواح مئات الآلاف التي أُزهِقت، ومصائر ملايين ممّن أجبرتهم عاصفة «الرّبيع» على اللّجوء والنّزوح والتّشرُّد في الآفاق.

 حصيلةٌ مروِّعةٌ من الموت الجماعيّ والدّمار والخراب هي هذه التي خلّفها إعصار «الرّبيع العربيّ». وهي حصيلةٌ لا سابق لها في السّوء والفداحة في كلّ تاريخ الوطن العربيّ الحديث. حتّى حينما كانت تُنْكَب بلادٌ عربيّةٌ بالاحتلال أو بالحروب العدوانيّة، ما كانتِ الحالُ فيها لتبلغ هذه الدّرجة من الهَوْل والتّعفُّن والاستنقاع التي بَلَغَتْها. لقد وَجَدَت بلادٌ عربيّةٌ نفسها، فجأةً، تعود القهقرى إلى ما قبل العصر الصّناعيّ. ولكن إذا كان ذلك يمكن أن يحدث بحربٍ خارجيّة قاصمة - نظيرَ تلك التي توعّد فيها جيمس بيكر، طارق عزيز بشنّها على العراق وإعادته إلى ما قبل العصر الصّناعيّ - فهي، هذه المرّة، حَصَلت بأيدي جماعات إرهابيّة مسلّحة لا بحروبٍ من دول وجيوش نظاميّة. والأنكى أنّ قسماً من تلك الجماعات من أبناء الوطن عينِه الذي دمّروه!

تنتمي نكبة «الرّبيع العربيّ» إلى استراتيجيّة سياسيّة إقليميّة كبرى أَطلقت عليها السّياسة الأمريكيّة، في عهد مهندسيها وصُنّاعها من «المحافظين الجدد» اسم استراتيجيّة «الفوضى الخلّاقة». وتقضي السّياسة هذه بأن يُصَار إلى إحداث تغييرٍ للنّظام السّياسيّ بالقوّة العسكريّة فتُدَمَّر مؤسّساتُه، وتُطْلَق تناقضاتُه الاجتماعيّة العميقة لتعبّر عن نفسها، وتُخرِج مخبوءاتها ليتكوّن من ذلك تكوينٌ اجتماعيّ جديد تَبْني الهندسةُ السّياسيّة على معطياته، ويُعاد تكوينُ السّلطة والنّظام في ضوء حقائقها الجديدة. والأنكى أنّ هذا وُضِعَ كلُّه تحت عنوان «نشر الدّيمقراطيّة في الشّرق الأوسط»؛ «الدّيمقراطيّة» التي لا تخرج من صناديق الاقتراع وإرادة الشّعب؛ بل المحمولة على صهوة الدّبابات الزّاحفة من خارج الحدود!

 ولقد جُرِّبت هذه الاستراتيجيا في العراق، ابتداءً، مع غزوه واحتلاله وتدمير دولته ومؤسّساته، وإنتاج نخبة سياسيّة متعاونة لإدارة شؤونه. لكنّ خيار تنفيذها من طريق الغزو بَدَا مكلِّفاً في العراق وأفغانستان بالنّظر إلى الكلفة الباهظة التي دفعها الغزاة بشريّاً وماديّاً، وهكذا عُدِل عنه إلى غيره. لم تتغيّر الاستراتيجيا؛ بقيت هي نفسها، لكنّ تعديلاً كبيراً وقع على صعيد طُرق إخراجها ووسائله؛ وكان «الرّبيع العربيّ» ميدان اختبارٍ موسَّع لهذه الطّرق والوسائل البديل، ثمّ ما كان توقيتُ انطلاقةِ حوادثه مع الانسحاب العسكريّ الأجنبيّ من العراق إلاّ تعبيراً عن أنّ القادم سيستأنف السّابق ويؤدّي وظائفه بأدوات أخرى.

 من رحم دروس تجربة «الفوضى الخلّاقة» في العراق نضجت فكرةُ الاعتياض عن الغزو الخارجيّ بالتّفجير الدّاخليّ. هذه أقلّ كلفة على مهندسي هذه الاستراتيجيا من دفع ثمن التّدخّل المباشر. ثمّ إنّ أدوات التّفجير المحليّة جاهزة؛ وهي - إلى ذلك - قويّة مُجَرَّبة في ساحات كثيرة ممتدّة من العراق إلى أفغانستان، ويمكن دعمُها بالمال والسّلاح وتزويدُها بالمزيد من المُقاتِلةِ عبر الحدود. هذا في ساحاتٍ بعينها لا سبيل إلى الدّخول إليها إلاّ بالسّلاح - مثل سوريّا وليبيا.

 حملت فرضيّة «الفوضى الخلّاقة» أجوبتها في جوفها منذ البداية. إذا كان المرغوب من هذه الفوضى أن تخلق واقعاً للقوّة جديداً يحتاج خلْقُه إلى تفجير البنية، فإنّ مَن أطلقوا الفكرة أدركوا، سلفاً، أنّ تلك القوّة الكامنة في الخفاء هي القوى الإسلاميّة وبالتّالي، بات عليهم تهيئة السّيناريو المناسب لإخراجها من القوّة إلى الفعل وفرض سلطانها على المجتمعات العربيّة. هذا جوهر «نظريّة» «الفوضى الخلّاقة». إذا جازت نسبتُها إلى الجمهوريّين المحافظين - وهي جائزة - فقد صارت استراتيجيّة عليا في السّياسة الأمريكيّة؛ لأنّ «الدّيمقراطيّين» تبنّوها وطبّقوها، ويكفي أنّ صيغتها التّجريبيّة الثّانية - مع «الرّبيع العربيّ» - جرت في سياق ولايتي الرّئيس باراك أوباما.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"