مشي التأمل

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

قيل على لسان فلاسفة قدماء إن المشي هو رمز لحرية الإنسان، وبخاصة حريته في التفكر، وقد عرفت المشي مختلف الحضارات، ومارسه رحَّالة وروائيون وفنانون وفلاسفة، ورياضيون، وكم أوحى المشي للكثيرين منهم أفكاراً للإبداع، وللاكتشاف.

في «مشوار» المشي، نتأمل ونبطئ من إيقاع الحياة المتسارع، ويندمج الجسد والفكر والطبيعة والأشياء المحيطة، وتنشط الذاكرة، ويتزود الدماغ بشيء من الأوكسجين، وتتوالد أفكار وحوارات صامتة.

في زمن «التقاعد»، وطقوس مقاومة «كورونا» أقبلتُ بشغف على رياضة المشي، فأغادر البيت قبيل غروب الشمس، في «مشوار» يمتد لنحو ساعة أو تزيد، وعلى امتداد درب أخضر في تلك الضاحية الجديدة، في جزيرة ياس، أطل منه أحياناً على الواجهة البحرية للمانجروف (القرم).

في المشي لحظات تدبر في الوجود والواجد، يتناغم الإنسان خلالها مع ما حوله، ويلهج بالثناء والحمد، ويتأمل تلك السحب البيضاء الخفيفة في بدايات ربيع دافئ لا يبشر بأي مطر، يدعوه لاستثمار لحظات النسيم الرقيقة التي تبلل الروح، قبل أن يأتي قيظ الصيف ويشتد.

في «مشوار» التأمل، حتى لو كان سريع الخطى، تحضر صور أصدقاء، من زمن النخوة والشهامة، تحافظ عليها، وتشدك إلى حنين الشوق لمحادثتهم، بعضهم رحل، وتنوب عنهم الذكريات معهم، ويزداد الأمر قسوة حينما تمر أرقام هواتفهم على شاشة هواتفنا.

في «مشوار» المشي اليومي حركة انسيابية، تُبقي عينيك مفتوحتين على الفضاء، و«مشائين» آخرين، يشاركونك التحية أحياناً.

المشي هنا، ليس نزهة على منحدرات جبلية، ولا مكان فيه للصعود أو للتسلق، وكم أغبط من يمشي ويتجوّل في الغابات، وأتوق شوقاً للمشي في «زقاقات» قرى ريفية، عرفتها ومشيتها، في عقود سابقة، في جبال مدن عربية، وأخرى أجنبية في سويسرا والنمسا وإسبانيا وضواحي واشنطن، وشمالي أوروبا، واليابان وغيرها.

أستحضر صوراً لتسلق التلال والجبال، وكيف وجدت أن هذا «التسلق» هو أيضاً يرمز إلى معاناة «النسَّاك».

وأتذكر ذلك الفندق الذي نزلناه مع الأبناء قبل سنوات، في منطقة «أمالفي» بإيطاليا، ويقع على قمة منحدر عالٍ، وكان في البداية قد أنشئ كدير للعبادة، في القرن الثالث العاشر، ثم تحول إلى فندق في أوائل العشرين، وأتذكر أن مشوارنا اليومي في الصباح كان يتطلب المشي نزولاً من قمة الجبل، وفي طريق حجري كثير الالتواءات والانحدارات.

وقد بُنيت أديرة ومعابد كثيرة على صخور عمودية في الجبال وشُيدِّت سلالم بسيطة في ثقوب هذه الصخور، وكأنها أعشاش للطيور، وكان بعضها يستخدم الحبال و«البكرة» لحمل الطعام والمياه للرهبان الذين يعيشون في هذه الأديرة. وقد شاهدت ذلك مراراً بأديرة ومعابد في لبنان ومدن أوروبية وآسيوية.

وقرأت أن جان جاك روسو كتب يقول إنه «يستطيع التفكير والتأمل فقط عندما يمشي». وكم شاهدنا في تجوالنا في متاحف عالمية لوحات فنية رائعة جسدت جماليات «المشي في الطبيعة».

وأذكر أن تلامذة أرسطو قد أُطلق عليهم اسم المشائين أو المتجولين، واعتاد هذا الفيلسوف على إلقاء محاضراته وهو يمشي مع تلاميذه.

وقيل إن نظرية النسبية خطرت في ذهن أينشتاين وهو يمشي يومياً من بيته إلى جامعة برنستون في طريق كثير الأشجار.

أثابر على المشي، ليس بهدف توليد أفكار بالضرورة، وإنما لتنشيط الذاكرة، والتأمل، والتخلص من الآثار السلبية للجلوس الطويل وراء المكتب، قراءة وكتابة، وتليين الساقين، وتذكّر أنه على هذه الأرض ما يستحق الحياة، والمشي في مناكبها والتأمل في جمالياتها، بعيداً عن ألغاز السياسة وفواجعها، وتقلباتها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"