عادي

واقع يضج بالشكوى

22:58 مساء
قراءة 6 دقائق

القاهرة: وهيب الخطيب

الحديث عن الترجمة دوماً مملوء بالشجون، وثمة شكوى شبه متكررة من الحال الذي يعيشه العرب في مجال نقل المعارف والآداب والفنون من الثقافات الأخرى، على الرغم مما حققه المترجمون خلال العقدين الأخيرين، ومع مطلع الألفية الجديدة. فما المآل الفعلي الذي وصلت إليه الترجمة في بلداننا العربية؟

الإجابة عن السؤال السابق، تتطلب منّا العودة إلى جذور بداية حركة الترجمة التي يُؤرخ لها بدءاً من ازدهار العصر العباسي، وإن قيل إنّها بدأت في عصر الدولة الأموية على يد خالد بن يزيد بن معاوية، الذي كان مهتماً بالكيمياء، واستخدم من يترجم له كتب ذلك العلم، ليدشن العرب الأوائل مرحلة النقل من السريانية واليونانية، وتنفتح الثقافة العربية على غيرها من المعارف.

ومع هذا الحديث المملوء بالفخر، لا يمنعنا أن نستدرك أن بداية حركة نقل الثقافات المتباينة كانت بطيئة، وظلت على ذاك الحال حتى عصر الخليفة العباسي الثاني أبوجعفر المنصور، المطلع على الفلسفة والمحبّ لأهلها، وصولًا إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون، لتشهد الحركة قمة رواجها ونشاطها خاصة بعد أن كاتب ملوك الروم وسألهم ما لديهم من كتب فلسفية، فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس، وغيرهم، فأسندها إلى المترجمين.

وبعدها، وإثر سقوط الخلافة العباسية ودخول العالم العربي حالة من الركود على المستويات كافة، توقفت الترجمة حتّى أصيبت حركتها بما يمكن وصفه ب«الشلل»، لتبدأ بالمعاودة من جديد مع انطلاق النهضة العربية الحديثة مطلع القرن التاسع عشر، وتحديداً ضمن مشروع محمد علي باشا، وإن ظلت محدودة حتّى مطلع القرن التالي، ليفتح المثقفون أبواباً كثيرة خاصة في اﻵداب والدراسات الإنسانية.

دلالات الأرقام

يستعرض ما سبق سريعاً مسار حركة الترجمة، ويبدو من كتابات التاريخ الثقافي أنها ارتبطت بمشاريع سياسية سواء في العصر العباسي، أو مطلع النهضة الحديثة، وإن بدت في جوهرها جهوداً فردية في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن تصير جزءاً من المشاريع الثقافية القومية، خاصة مع بداية حركات التحرر الوطني.

ومع هذا الاهتمام بموضوع الترجمة، ماذا تقول الأرقام؟ إذا عدنا إلى فهرس «اليونيسكو» للترجمة المعني بتحليل نشاط الترجمة الدولية منذ الثمانينات، فإننا لن نجد قوائم عربية مكتملة أو دقيقة، لغياب فهارس الناشرين في العالم العربي حينذاك، ويشير الفهرس إلى ترجمة نحو 7265 كتاباً خلال ربع قرن، أي منذ مطلع الثمانينات حتّى بداية القرن الحادي والعشرين، بنسبة 58% من اللغة الإنجليزية، و%16 من اللغة الفرنسية، وإن مثلت الكتب باللغة الروسية نسبة 31.7% حتى عام 1991، ونُشر أغلبها في الاتحاد السوفييتي، قبل انهياره.

الأرقام المتدنية والمحدودة من الإصدارات المترجمة، تعكس غياب رؤية وخطة عربية، عامة أو محلية، تعي مقومات العصر وتحدياته، وتمثل استجابة لها. ومع الألفية الجديدة، دشنت مشاريع عربية مهمة للخروج من حالة ركود الترجمة، جاء في مقدمتها المشروع القومي للترجمة في مصر، قبل أن يتحول إلى المركز القومي، ومشروع كلمة في الإمارات والذي ينظم سنوياً ملتقى للترجمة بمشاركة مترجمين عالميين بالتوازي مع معرض الكتاب في أبوظبي.

مشكلات جمّة

ما سبق يدعونا إلى القول إن حركة الترجمة تعيش مشكلات جمّة، تبدو متعثرة في كثير من الأحايين، وتعاني الفوضى، وما تستبعه من ارتجالية وعشوائية وفردية، في ظلّ غياب الخطط القومية والرؤى الاستراتيجية، وتظل الكتب المترجمة رهينة اختيار المترجمين وذائقتهم، وحبيسة هوى الناشرين وحساباتهم.

كذلك يغيب الاهتمام بالمترجم، إعداداً وتنمية، على الرغم من كونه منفذ المجتمع للانفتاح على ثقافة الآخرين، ومن ثم التحرر من بئر الانغلاق والتقوقع داخل شرنقة ثقافات الأنا المهيضة؛ بل حفزنا على النفاذ بفكرنا في دائرة فكر الآخر.

فضلاً عن إشكاليات الترجمة وأخطائها، إذ يتعامل البعض معها بوصفها مجرد نقل من لغة لأخرى، وصنعة محدودة، في الوقت الذي تتعامل فيه المجتمعات المتقدمة مع الترجمة بوصفها نمطاً من النشاط الفكري الفني العلمي البشري، يهرب بجذوره إلى أعماق كثيرة، ويتشعب بجذوره إلى كل اتجاه. والمجتمعات الإنسانية في حاجة دائمة إلى جميع أنماط الأنشطة المعرفية؛ حيث وجود الإنسان؛ بل المجتمع بأكمله وارتقاؤه، اجتماعياً ونفسياً وثقافياً؛ بل بيولوجياً، رهن العمل الاجتماعي العقلاني المجسد للمعرفة.

والحقيقة أن أخطر ما تعانيه الترجمة العربية الراهنة هو اختزال الترجمة في نقل المفاهيم من دون الإشارة إلى تحيزاتها، ويتبدى من خلال المفردات نموذج حضاري متكامل، تعجز عنه الترجمة الحرفية عن نقله؛ بل إنها تطمس معالمه أحياناً، وتفصل المصطلح عن النموذج الحضاري الكامن وراءه. وفي رأى البعض تمثل هذه الإشكالية نتيجة لتغليب كثير من المترجمين العرب قيمتي الصحة والدقة، بعيداً عن المساءلة الناقدة.

أضف إلى ذلك، الاعتلال في نوعية الكتب المترجمة، وغلبة العلوم الاجتماعية والإنسانية في السياسة والأدب والتاريخ والفن والنقد، ومن بعدها كتب التسلية أو الكتب التعليمية والتنمية الذاتية التي تجلب ربحاً وفيراً للناشرين، وتتراجع على نحو ظاهر ترجمة العلوم والتطبيقات الحديثة، ونكاد لا نلمح أثراً للكتب الطبية والبيولوجية والزراعية والهندسية.

تجارب فردية

وبمناسبة الفردية كإشكالية تصيب حركة الترجمة، فمن الممكن أن يحقق المترجم الفرد إنجازاً في ساحة الترجمة، لكنه سيظل محدوداً بقدرات الفرد مهما بدت متسعة، وهنا يمكن أن نتذكر مسارين مختلفين لكنهما مهمان، الأول المشروع الخاص بالفيلسوف عبد الرحمن بدوي الذي استهدف إحداث ثورة روحية في الفكر العربي الحديث، من خلال العودة إلى التراث اليوناني، بوصفه أساساً قويماً من الأسس التي قامت عليها النهضة الأوروبية الحديثة.

والنموذج الثاني يتمثل في مشروع الشاعر والمترجم رفعت سلّام، الذي حمل على كاهله تقديم سلسلة من الأعمال الكاملة لكبار الشعراء، مثل والت ويتمان، وآرثر رامبو، وبودلير، وقسطنطين كفافيس، بجانب مختارات من قصائد يانيس ريتسوس، وبوشكين وغيرهما.

ترجمة آلية

في سياق مغاير، قد تمثل التطورات التكنولوجية الفائقة عاملاً ذا حدين بالنسبة لمجال الترجمة، ففي الوقت الذي تسهل فيه الحصول على المادة المُراد ترجمتها، وعمليات البحث والتوثيق، وتتيح الحصول على المعلومات من مصادر عدّة ومختلفة، فإنها- أي التكنولوجيا الفائقة- تهدد عمل المترجمين أنفسهم، خاصة مع دخول عصر الترجمة الآلية.

وتطورت الترجمة الآلية خلال العقدين الأخيرين تطوراً يكاد لم يخطر على بال أيّ من المتابعين لمسيرة الترجمة في العالم بأسره، لا في الدول العربية فحسب، إلى الدرجة التي يراها البعض تهديداً حقيقياً لعمل المترجمين، يصل حد إلغاء الدور البشري والاستغناء عن مهنة المترجم.

ومن خلال تتبع مسيرة تطور الترجمة الآلية، نلاحظ وجود نظام وحيد متوفر تجارياً للترجمة الآلية من اللغة الإنجليزية إلى العربية، حتى النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين، وهو نظام طورته شركة «وايدنر» الأمريكية للاتصالات، قبل أن تتقدم الأمور في شهر إبريل/ نيسان من عام 2006، مع إطلاق غوغل ترجمتها الإحصائية التي شملت اللغة العربية، وقبل ذلك كانت برامج الترجمة الآلية السائدة ترتكز على قواعد اللغة.

وبعد التاريخ السابق بأحد عشر عاماً، أي في عام 2017 أعلنت غوغل تخليها عن الترجمة الإحصائية التي تفكك الجمل المدخلة إلى عبارات وكلمات تترجم على نحو مستقل، وتقر باستخدام الترجمة الآلية العصبية التي تعتمد على التعلم الذاتي العميق، والذي يوفر إمكانية ترجمة الجمل دفعة واحدة من دون تجزئة.

إذن، صار بإمكاننا أن نترجم جملاً وفقرات كاملة على نحو آلي، ومن دون تدخل أي عنصر بشري، وفي ظل ما تشير إليه الدراسات الخاصة بالترجمة الآلية العصبية بشأن تحسنها سنوياً بنسبة تراوح بين 3% و7%. وتتوقع هذه الدراسات أن يصل مستوى الترجمة الآلية إلى مستوى الترجمة البشرية بحلول عام 2030، باستثناء ترجمة النصوص الأدبية والفلسفية، وتلك التي تتضمن مصطلحات علمية جديدة، إذ يتوقع أن تبقى بحاجة إلى تعديل من قبل البشر.

ظاهرة

في الوقت الذي يشكو فيه المترجمون تهديدات التكنولوجيا، ذلك الخطر الذي يحدق بعملهم، ثمة من يقف في الناحية الأخرى، ويرى التطور التكنولوجي أداة يمكن أن تسهم في تنمية حركة الترجمة العالمية عموماً، والترجمة إلى العربية على نحو أخص، لما تقدمه من تسهيلات توفر الوقت والجهد وربما التكاليف المادية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/nb62ddcy

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"