في الذاكرة.. دبلوماسية ملهمة

00:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. يوسف الحسن

شهِدتُ قبل أسبوعين، لحظات لقاء توهّجت فيه ذكريات زمن جميل، وأضاءت فيه نفوس المشاركين، من سفراء ودبلوماسيين متقاعدين، تشرفوا ذات يوم بحمل رسالة وطنية نبيلة، وأنجزوا واجباً تجاه وطن كان يعيش مرحلة تأسيسية ثقيلة وصعبة، وفي ظل أوضاع داخلية وخارجية معقدة، وبناء دولة اتحادية ونظم وقوانين، وقواعد حكم عصرية، وتأليف قلوب، وبلورة شخصية قانونية دولية، وكسب اعتراف إقليمي ودولي، وتشييد أسس متينة لقوة ناعمة مؤثرة، وتجاوز إشكاليات وأزمات حدودية، وسك نمط دبلوماسي، يحمل أخلاقيات تضامنية وإنسانية وتعاونية، وفعل الخير، من غير منّة ولا تمييز، ويمارس سياسات وعلاقات عصية على الاستقطاب، وقادرة على الإبحار في عالم مليء بالتحديات والعواصف، وتقديم الدولة الجديدة، كدولة نافعة لأهلها وللعالم.

كان اللقاء يحمل رسالة تقدير وعرفان من وزارة الخارجية، لجهود دبلوماسيين متقاعدين، في خدمة المصالح العليا للدولة، في العقود الأولى لنشأتها، كما كان اللقاء أيضاً لفتة طيبة، ومبادرة مقدرة من سموّ الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية، وحرصه على توفير الحياة الكريمة لهذه الكوكبة من السفراء والدبلوماسيين، وتعبيراً عن الحاجة إلى استثمار خبراتها ومهاراتها ومعارفها، في تنشئة وتأهيل أجيال دبلوماسية جديدة، وبناء جسور تواصل بين الأجيال، واستحضار تراث الدبلوماسية الإماراتية، في عقودها الثلاثة الأولى على الأقل، باعتبار أن هذا الاستحضار ضروري لبناء الخبرة التراكمية، وفهم الوقائع التي نعيشها اليوم، والتي يظل تأثيرها الممتد عبر الزمن.

وفي ذلك الملتقى، وفي إطار «مجلس الدبلوماسيين المتقاعدين»، والذي يضم نخبة مميزة من السفراء السابقين، استدعى المشاركون، صوراً ما زالت تسكن الذاكرة، بعضها رقيق كالحلم الجميل، وبعضها مائج بالحركة وشغف العمل واكتساب المعرفة، والإرادة الصلبة باكتشاف آفاق العلاقات الدولية وتعرجاتها في عالم الحرب الباردة، وصراعات الاستقطاب والتنافسات الشرسة.

وتتفقد وجوهاً لأصدقاء وزملاء، لم تلتقهم منذ سنين، أضاءت رفقتهم زمناً فيه الكثير من الأحلام والتحديات والمخاطر، لا تصافحهم أو تعانقهم إلا ويرتعش الوجدان، نتذكر أصدقاء رحلوا إلى دار البقاء، وآخرين استُشهدوا أو جُرحوا وهم في خط الدفاع الأول في بيئة العلاقات الدولية المعقدة، زملاء ملكوا نخوة الرجال، وعافية الوفاء، والإخلاص للوطن وقيادته، وتآخوا مع الفضائل الإنسانية، وجسّدوا عملياً قيم مجتمعهم وثقافته وتراثه وطموحاته، وانفتحوا على ثقافات أمم وحضارات، والتزموا قواعد العمل الدبلوماسي المعتمدة دولياً، واستوعبوا تقاليده ونظمه، وانخرطوا بتؤدة وصبر في بيئة الشؤون والعلاقات الخارجية، نتذكر أستاذنا و«نوخذتنا» في رحلة الدبلوماسية الأولى، معالي أحمد خليفة السويدي، أطال الله في عمره وصحته، أول وزير خارجية، والشهيد سيف غباش رحمه الله، وآخرين قادوا ركب الدبلوماسية في الداخل والخارج، بأمانة ومسؤولية، وشغف نبيل ونجاح، وتحملوا مشاقه.

وقد حضرتْ في هذا الملتقى، ذكريات لمواقف ومشاعر، وأحداث ونقاشات ومؤتمرات وحوارات (مع الاتحاد الأوروبي، والكتلة الإفريقية، وأخرى في الشرق والغرب)، ومشاركات في ندوات وورش عمل ومفاوضات هنا وهناك، في عواصم ومدن نائية، وأخرى ملتهبة أو مأزومة، دبلوماسية نشطة وواثقة بنفسها، وذات مصداقية وتأثير في أزمات أو حروب أو نزاعات أو تسويات أو إنعاش أو دبلوماسية وقائية.

افترقنا في الأمكنة، لكن ظلت سيرتهم راسخة في الذاكرة، نتذكر ألوانها وزواياها، وفرحها وتعبها، إنها وجوه لم تعرف الغلظة، وبشرّت بالأمل، واجتازت الصعاب، وبأخلاقيات «مدرسة زايد الدبلوماسية» الرفيعة، وعمادها «المسؤولية أمانة».

أصدقاء ماضون بالسنين إلى الأمام، من دون ضجر في الحياة، يحاولون اكتساب حيويات جديدة، والتفكر في تغيرات العالم وثقافاته اللاهثة، وتحولاته السياسية، ومواصلة العطاء الفكري، ومشاركة أجيال طالعة، الخبرة وذاكرة الزمن الأول، وترسيخ دروسه وعبره، من أجل الحاضر والمستقبل.

قد يجد بعضهم في الحياة بعد التقاعد، معاني جديدة وفرصة حقيقية مع الأسرة والأبناء والأحفاد، وقد يعاني البعض هواجس العمر، من مرض أو عزلة اختيارية، أو توقاً إلى التواصل الواقعي (وليس الافتراضي) مع رفاق الذاكرة المشتركة، في نادٍ دبلوماسي، بأنشطة ثقافية واجتماعية، أو في منبر ثقافي وحواري، يسهم في تهيئة «مسارات ثانية» لدبلوماسية غير رسمية، (Track Two Diplomacy)، تفتح مسارب غير مطروقة وقنوات خلفية، لحوارات مع ثقافات أخرى، ومنابر مماثلة في العالم، وتستثمر في خبرات ومعارف متقاعدين دبلوماسيين وأكاديميين وشخصيات عامة مؤثرة وعالمة، كخلية تفكير مستقلة، تخدم المصالح الاستراتيجية للدولة.

تذكرت الشخصية الأسطورية، في الميثولوجيا اليونانية «سيزيف»، صاحب الصخرة الذي لم يتخلّ عن حلمه، في دحرجتها إلى أعلى الجبل، رغم شعوره بالتعب والإرهاق.

وقلت لصديقي، والملتقى يُنهي أعماله: «إن التقاعد يمنحنا الحكمة والهدوء النفسي والفكري»، فضحك صديقي وقال: «من بركات التقاعد يا عزيزي… عدم الحاجة إلى طلب إجازة».

أيها الأصدقاء.. العالقون في الذاكرة، من حضر منكم ملتقانا، ومن غاب لسبب أو لآخر، أحييكم وأسلم عليكم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yf9tevv7

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"