الفن .. همزة وصل بين البشر

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

قالوا إن الفن هو الوسيط الإنساني بين البشر، وقالوا أيضاً إن الموسيقى لغة عالمية تتحدث بها كل الأوطان في أنحاء الكوكب، وهذه أقوال صحيحة لأن الفن هو تربية الإحساس بالجمال وتنمية الشعور بالخير وتعزيز التطلع إلى الحق، ولقد قال علماء علم الجمال إنه مجموعة النسب المتناسقة في الشيء الواحد، وأنا أميل إلى هذا التفسير الذي يضع الجمال تحت منظور العلم ويسمح بالقياس الدقيق له، فالنسب المختلفة بين الأجزاء المتعددة حتى في الكائنات البشرية هي المعيار الدقيق لقياس درجة الجمال وأهميته، ولا ينفي ذلك أهمية مقولة العالم الكبير أستاذ الفلك د.أحمد زكي، إنه ليس كالنقص دليل على الكمال؛ فالبدر ناقص الاستدارة في السماء ، واللذغاء والحوراء قد تضيف بهما جمالًا على جمال؛ لأن الجزء المختلف يشير إلى العموم المتحد، وهنا تبرز قيم الجمال الحقيقي خصوصاً لدى أولئك المشتغلين بالفنون بكافة أنواعها تشكيلية أو موسيقية أو غنائية، وقس على ذلك كل مظاهر الجمال في الكون الذي خلقه الله فأبدعه بانتظام، تحار أمامه العقول البشرية وتتضاءل القدرات الإنسانية في فهم ما هو متاح والتنقيب عمّا هو خفي، ولقد استعانت كل مصادر الثقافة لدى الإنسان المعاصر بالفنون، طريقاً للوصول إلى المشاعر الكامنة والأحاسيس الدفينة لدى الناس، حتى الديانات السماوية والأرضية استعانت بالترتيل الجميل في الإسلام وترانيم الكنائس في المسيحية ودقات الطبول وقرع الأجراس في كثير من العقائد، التي تشد البشر وتعزز الإيمان وتقوي المشاعر، وأنا أعوّل كثيراً على الفنون سبيلاً للوصول إلى الحقائق واكتشاف أسرار الكون، فأنا أطرب بأصوات أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ،  وصولاً إلى صباح فخري ووديع الصافي وطلال مداح ومحمد عبده وغيرهم من أساطير الطرب، بل إنني أطرب أحياناً للغة عميد الأدب العربي طه حسين، خصوصاً عندما يلقيها إلقاءً فيثير في النفس بواعث الدفء رغم خلو الحياة أحياناً من أسباب الرقي والتقدم، فعميد الأدب العربي هو موسيقار الكلمة والتي أضيفت إليها أن العقاد كان هو نحّات الفكرة ولا أجد تطابقاً للتعبير عن هذين الرمزين الكبيرين في الثقافة المصرية إلا من خلال هذه العبارة التي أسوقها في أكثر من مناسبة، لقد كنت أزور بعض الحدائق التاريخية في دولة الهند، وأشهد أن تلك البساتين هي نمط مثالي للجمال الرائع بنسبه المطلوبة وعبق تاريخه المشهود ورائحة الزمان التي تفوح في أرجائه، فالجمال لا مكان له ولا زمان يحدده ويمكن أن يوجد في المطلق فيصبح روحانياً ويتحدد في النسبي فيصبح بشرياً، إنني أتذكر أنني كنت أضع كاسيت رباعيات الخيام في سيارتي، طوال سنوات إقامتي في لندن، وأنصت إلى شدو كوكب الشرق لما ترجمه رامي من الفارسية إلى العربية عن الخيام؛ فأشعر بحالة من السموّ تجعلني أكاد أطير فوق الأشياء في معزوفة إنسانية تقطع حبال الغربة وتصل بظاهر الحياة، ولا بد أن أعترف هنا أن العلاقة بين المصدر والتأثير ليست بالضرورة متناسقة، فقد كنت في وداع كوكب الشرق بمطار لندن في صيف عام 1973 وأمضيت معها ومع زوجها الراحل د.حسن الحفناوي ما يزيد على الساعات الثلاث ولم يبهرني حضورها قدر لهفتي إلى سماع صوتها، فالغناء طرب وشجن ولكن الحياة العادية هي واقع بما له وما عليه، وما زلت حتى الآن أقرأ بنهم تعليقات النقاد الفنيين من المشاهير فأتطلع إلى ما يكتبه الناقد الفني الكبير طارق الشناوي، وقد أتفق معه أو أختلف ولكني أظل سعيداً بالتحليل الذي يسوّقه والمزج بين الرؤية الفنية والواقع السياسي لكل حدث فني مر علينا، إن الفن رسالة وهو أيضاً حضارة، وقبل ذلك كله هو تربية للوجدان وصقل للمشاعر وتهذيب للنفوس، حتى إن العلاج بالموسيقى أصبح واحداً من اهتمامات الطب الحديث، كما أن الطرز المعمارية الجميلة أصبحت هي الأخرى علامة على الارتقاء، وأتذكر أنني شخصياً سألت الملك تشارلز الثالث في أحد لقاءاتي معه، عن سر اهتمامه بالإسلام ديناً وعدالته وموضوعيته في الحديث عنه، فأجابني على الفور إنها المعمار الإسلامية خصوصاً بالقباب والمآذن، وهي أشكال هندسية رائعة شدتني في البداية ثم دفعتي لمزيد من القراءة عن ذلك الدين السماوي الذي أحترمه وإن لم أكن من أتباعه.. هذا طواف سريع لإثارة قضية الفن ورسالته في ثقافتنا المعاصرة، وقدرته على تربية أجيال تقود الإنسانية إلى الأفضل في كل مكان وزمان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4r2mjd7x

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"