الرأي العام بين التلفزيونات والمنصات

00:43 صباحا
قراءة دقيقتين

الحسين الزاوي

يبدو المشهد السياسي في العالم الآن، شديد الاضطراب وتُسهم الثورة الرقمية وتكنولوجيا التواصل في جعله أكثر تعقيداً، بسبب السيل الجارف من المعلومات، والخطابات، والصور الفورية التي تبث من كل القارات، وبخاصة من مناطق النزاع، الأمر الذي يجعل الجميع يخضعون لضغوطات الراهن بالشكل الذي يصعب فيه التقاط الأنفاس وتكوين تصورات عقلانية قادرة على النظر إلى المشاكل والأزمات الحقيقية التي يجري التضحية بها، لمصلحة ما هو مستعجل؛ وبالتالي فإن من الأهمية بمكان إعادة النظر بشكل نقدي ومستمر في الدور الخطر الذي باتت تلعبه أشكال التواصل المتعدّدة في حياة الأمم، وفي تشكيل وعي النخب الحاكمة والرأي العام، ونعني في هذا المقام بشكل خاص التأثيرات الحاسمة التي تمارسها القنوات التلفزيونية، ووسائط التواصل الاجتماعي.

ويشير المفكر برتراند بادي، في سياق حديثه عن علاقة التلفزيون بالسياسة، إلى أن الظهور المفاجئ للتلفزيون في الحياة الاجتماعية غيّر الكثير من القواعد المتعلقة بالتواصل السياسي، وطرح مشكلة تأثير هذه الوسيلة الإعلامية في تصرفات الجمهور والفاعلين مثل مسؤولي مجموعات المصالح، والمنتخبين، ورجال السياسة؛ وحتى إن كان من الممكن البرهنة على أن تأثيرها يبدو في الأغلب كأنه مبالغ فيه، إلا أنه لا يمكن أن نغفل أهمية قياس أثر الاعتقاد المنسوب إلى هذه الوسيلة.

وهناك اهتمام متزايد بتحليل مضامين الخطابات والصور، وكل المشاهد التي تنقلها القنوات التلفزيونية وتركيز غير مسبوق على كيفية توجيهها للرأي العام، ويجري الاهتمام أيضاً بالتأثير بعيد المدى للتلفزيون على نمط اشتغال النظام السياسي.

ويتحدث في هذا الإطار، أوبير فدرين، عمّا يسميه: «أثر سي إن إن»، وهو تعبير ساد في التسعينات من القرن الماضي، لكي يوضح في زمن حرب الخليج الحضور الكاسح، والتأثير اللافت لمسار الأخبار المتواصلة على صناع القرار السياسي. ويوجد الآن ما لا يقل عن 110 قناة مخصّصة للأخبار المتواصلة عبر العالم، الأمر الذي يُحدث انقلاباً في وسائل الإعلام، وفي وعي المجتمعات وفي أنماط وإيقاعات الحياة؛ ومن ثم فإن ما يسمى «أثر سي إن إن» لا يتعلق بمشكلة العمل على أمركة العالم فقط، وفق تعبير رجيس دوبري، ولكن بعملية تحويل كل المجال العام من طرف سيل الأخبار المتواصلة التي تضع كل شيء تحت الضغط بشكل اصطناعي، وتدفع المسؤولين عنوة، خاصة الذين ليس لديهم ما يكفي من المقاومة، إلى القيام بردود أفعال فورية، ومتعجلة، بصدد كل شيء، وكيفما اتفق. ويعرف العالم الآن، علاوة على سطوة القنوات التلفزيونية، هيمنة وتسلطاً غير مسبوقين من قبل وسائط التواصل الاجتماعي، التي توهم الجميع، من النخب والسواد الأعظم، بأن لهم القدرة الكاملة والفعلية على صنع مضامين مستقلة، بل أن هذه الوسائط تحوّل أحلام يقظة الأشخاص، وربما هذياناتهم،إلى إبداعات مزعومة. وقد اتضح مؤخراً بطلان ادعائها الدفاع عن حرية الرأي، عندما اندلعت أزمات كبرى، مثل الحرب في أوكرانيا، والعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني الأعزل.

وفي اعتقادنا تحتاج المجتمعات، إلى وقفة حقيقية للتفكير، بموضوعية، في التأثيرات السلبية للقنوات التلفزيونية ولوسائط التواصل الاجتماعي، في وعي الأفراد والجماعات من أجل إعادة الاستقرار والتوازن إلى سلّم القيم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2ahx93j8

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"