أوروبا تعيد النظر

00:59 صباحا
قراءة 4 دقائق

جميل مطر

يوحي مشهد أوروبا في لحظتها الراهنة لمراقب خارجي بانطباعات تستحق الالتفات إليها. تظهر أوروبا أحياناً كجماعة مستمرة في افتقاد فتوتها، وفي أحيان أخرى راغبة في استعادة ما فقدته منها. من دلائل المشهد التصريحات المتناقضة، نصاً وروحاً، لمسؤولين كبار، ليس في داخل مؤسسات الجماعة الأوروبية فقط، ولكن أيضاً داخل الدول الأعضاء. منها أيضاً التغيرات الحقيقية في مواقف عدد متزايد من هذه الدول تجاه قضايا دولية بعينها، وأهمها بالنسبة إلينا الحرب الأمريكية الإسرائيلية على شعب فلسطين. دليل آخر هو ظهور علامات في سلوك دول أوروبية تكشف عن حال إحباط سياسي عام في بعض دول الغرب، وارتباك، ولا أقول تخبط، تجاه تطورات استجدت على عدد من القضايا الدولية. توحي الصورة العامة بتراجع مكانة أوروبا في العالم الخارجي، بخاصة في عالم الجنوب، أو ربما بميوعة لم تكن في السابق من سمات السياسة الخارجية لهذه الجماعة. أتصور، كمراقب، بين مراقبين عدة، وجود أسباب كثيرة تقف وراء هذا المشهد، تتصدّرها الأسباب التالية:

*أولاً: واقع لم يعد يحتمل الإنكار، أو حتى التشكيك، وهو حال التراجع المتواصل في مكانة الزعامة الأمريكية لدول الغرب، وفي هيمنتها بشكل عام على السياسة الدولية. لم تعد أوروبا التابع الطيب المطيع دائماً لتوجيهات الدولة القائد في الغرب. وفي الواقع لم تعد الولايات المتحدة تقدم النموذج الأمثل لقطب مهيمن وقادر على فرض إرادته، ليس على مختلف دول العالم الخارجي فقط، وإنما أيضاً داخل المجموعة الغربية.

*ثانياً: مادياً وعسكرياً، أثبت الحلف الغربي أنه غير قادر على تحمّل كلفة حربين في وقت واحد، وعندما تعيّن على أمريكا الاختيار بين حليفين اختارت دعم إسرائيل في حربها ضد الشعب الفلسطيني، على الاستمرار في دعم أوكرانيا في حربها ضد الاتحاد الروسي، الخصم الرئيسي للغرب. المثير في الأمر أن الغرب توحد في بداية حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين، قبل أن ينتبه أعضاء فيه إلى أن الأمن القومي لكل، أو معظم دول الغرب مرتبط بنتيجة الحرب في أوكرانيا، وليس بحرب إسرائيل، بينما اختارت أمريكا هذه الأخيرة متجاهلة نوايا وسياسات ومصالح بقية أعضاء الحلف، بخاصة وقد اتضح أن مساهمة أمريكا المادية في حرب أوكرانيا لم تؤهلها إلا لمكانة متأخرة جداً في ترتيب الدول الداعمة مادياً لأوكرانيا. وليس خافياً الشعور بالغبن، إن لم يكن أسوأ، الذي تولد لدى بقية الحلفاء الغربيين.

*ثالثاً: وقعت أحداث السابع من أكتوبر فمهدت لموقف موحد وكاسح في كل الدول الأوروبية من شن إسرائيل حرباً ضد من أسمتهم حماس. تعاطفوا مع إسرائيل، بعضهم زايد على أمريكا، وعلى إسرائيل ذاتها. وبمضي الحرب اكتشفت قطاعات في الرأي العام الأوروبي أن حرب إبادة هي الجارية فصولها في فلسطين، وليست حرباً ضد أفراد مقاومة. انفض الإجماع الذي ساهمت أمريكا في صنعه، وانقسمت دول أوروبا في مجموعها، وفي داخل كل منها. كانت خسارة أمريكا المعنوية واضحة، وبعدها خسارة ألمانيا.

*رابعاً: لم يحدث على امتداد حياة الحلف الغربي أن توافق، تماماً أو دائما، الرأيان الأوروبي والأمريكي حول إقليم الشرق الأوسط. الأعراف التاريخية، في تفاصيلها الدقيقة، ربطت بين الإقليمين الأوروبي والشرق أوسطي، إلى حد أزعج كثيراً صانع السياسة الأمريكي.

*خامساً: تسببت رحلة أمريكا من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى بابتكار نوع من تحالفات غير إقليمية تعوّض به العجز عن إنشاء حلف باسيفيكي، قوي وفاعل. من هذه التحالفات الصغيرة حلف يضمها مع بريطانيا وأستراليا، وحلف يضمها مع اليابان والهند، وأعلن بلينكن خلال زيارة لإفريقيا عن حلف أطلق عليه «الشراكة من أجل الأطلسي»، هدفه الحقيقي تعزيز دور أمريكا كمنافس لمبادرة الطريق الحرير الصينية، من ناحية أخرى سد النقص في قوة الوجود الأوروبي في القارة السمراء، وفشله في وقف تمدد منظمة البريكس في إفريقيا، ورغبة في وقف توسع المغزى وراء الدور الكبير الذي تأهلت لتقوم به دولة جنوب إفريقيا، بخاصة مبادرتها الخاصة برفع قضية إبادة بشرية ضد إسرائيل في لاهاي أمام محكمة العدل الدولية، وهي القضية التي يمكن أن تجرّ في ركابها دولاً أخرى مشتبه في تواطؤها مع إسرائيل، أو مساعدتها بالمال والسلاح، لتنفيذ عملية الإبادة البشرية في فلسطين.

*سادساً: أعرف أن أوروبا لم تكن، ولن تكون، سعيدة بوجود دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. أقول هذا وأنا مثل كثير من المراقبين أتوقع عودته إلى البيت الأبيض في الانتخابات القادمة، ما لم يحدث حدث جلل من خارج العملية الانتخابية، يمنع هذه العودة.

تظل أوروبا مهمة لنا في العالم العربي، بصفة خاصة، والشرق الأوسط بصفة عامة، وما يحدث فيها ومن حولها هذه الأيام يستدعي من القائمين على شؤونها التأمل العميق في كل الخيارات المطروحة على حاضرها ومستقبلها. يعتقد مفكرون أوروبيون حاجتهم الماسة هذه الأيام إلى مفكرين من نوع ووزن جيل المؤسسين الأوائل لمشروع التكامل الأوروبي. ويرون، وربما كانوا على حق، أن العالم في حال فوضى وارتباك شديدين، وقد تستطيع أوروبا، أكثر من غيرها، أو مع الصين، الإمساك بلجام الفوضى لوقف الانزلاق نحو حروب أخرى، غير أوكرانيا وفلسطين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/3j8yedhp

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"