في الرواية الأمريكية كلهم منتصرون

00:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

جميل مطر

أقرأ أحياناً، وأسمع كثيراً، أن في واشنطن الآن من يعتبر أن المرحلة الراهنة من حرب غزة صارت تستدعي تدخلاً أمريكياً مختلفاً، بعض الشيء، عن نمط التدخل خلال الأشهر الخمسة الماضية. أما التبرير الرسمي المسرّب إلى خارج دوائر صنع القرار، وأغلبها وللحق في حال ارتباك وشعور بالتعاسة، فيميل إلى اعتبار أن أطراف الصراع الحاد قد حققت، جميعها، انتصارات، كبيرة أو ضئيلة، في جانب، أو آخر، وهو الوضع الذي يستحق تدخلاً مناسباً.

يعتمد هذا التبرير مبدأ تتبناه الدبلوماسية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويقضي بأن أمريكا سوف تتعامل بطريقة مختلفة مع أطراف أزمة أنهكتها الحرب، أو في حال تفاقم الضرر الذي حاق بمصالح أمريكا. أمريكا سوف تتعامل بمنطق أنهم جميعاً، حققوا انتصارات، من نوع أو آخر، وبدرجة أو أخرى. لنا في مصر، ولا شك، تجارب لا نغفلها، أو نتغافل عنها، تجربتنا مع هنري كيسنجر مهندس الاستراتيجية الأمريكية، حين كان يتدخل لتقوية طرف ضعيف في صراع، حتى يصبح هذا الطرف الضعيف، أو المنهك، طرفاً لائقاً وجاهزاً ليستحق صفة من صفات الانتصار، وبالتالي تتحسن مواقعه التفاوضية، وتتحقق فرصته للقبول بوقف القتال، والشروع في الاندماج في العملية السياسية التي تنوي واشنطن احتكار الإشراف عليها.

كانت مثيرة خلال الأيام القليلة الماضية متابعتنا لتطورات الوضع في حرب غزة، أو حرب فلسطين، كما يجب أن تسمى، في سعينا لتوقع اللحظة في هذه الحرب التي تستوجب تدخل واشنطن لتغيير دفة الحرب، أو بالأصح، لمنع توسعها وتمددها نحو آفاق قد يستحيل عندها تحقيق الأهداف الرئيسية لهذا الصراع. أنا شخصياً صرت مع الوقت أستبعد احتمال أن تترك أمريكا الأمور في الحرب، وفي الشرق الأوسط عامة، تتطور بالكامل نحو وضع لا تشارك في صنعه، لاعتقادي أن مدرسة كيسنجر لا تزال هي الحاكمة في دوائر صنع القرار الاستراتيجي في واشنطن، ولاعتقادي أيضاً أن تغيّراً ممكناً أو واقعاً بالفعل، صار يهدد ثبات واستقرار بعض القواعد السياسية الداخلية في الولايات المتحدة نتيجة الأزمة الناتجة عن هذه الحرب.

لاحظنا جميعاً على امتداد الأزمة إلى أي حد ذهبت الولايات المتحدة لتثبت لمختلف الأطراف موقعها من هذا الصراع. رسّخت قواعد انحيازها، ووضعت حدوداً، وهددت، علناً وسراً، بأفعال ضد من يتجاوز، أو حتى يقترب من هذه الحدود.. حاربت إلى جانب إسرائيل بكل أدوات الحرب، ما عدا الأفراد، وأقولها بتحفظ. لم تخجل أمام حلفائها العرب لكونها منحازة. لم تأبه لغضب الشعوب العربية، وشعب فلسطين في المقدمة. جرجرت دول حلف الأطلسي إلى مواقف مبالغ فيها، وخارجة عن مواثيق الحقوق، والعدالة، وحق تقرير المصير، وانتهاء عصر الاستعمار، وكلها يفترض أن تكون من «ثوابت»، وأخلاقيات السياسة في الحلف الغربي.

اعتمدت أمريكا منذ بداية هذه الحرب سياسة الانحياز الكامل للموقف الإسرائيلي، مع احتفاظها بحقها في قيادة هذه العلاقة. على الجانب الآخر، اعتمدت إسرائيل على حقها في قيادة يهود أمريكا في أداء مهمة التأثير في صنع القرار الأمريكي، في أمور شتى، على رأسها مصالح إسرائيل.

فاجأت أمريكا كثيراً من المراقبين عندما وجهت الدعوة لغانتس، عضو مجلس الحرب الإسرائيلي، لزيارة واشنطن وإجراء محادثات مع كبار المسؤولين، متجاوزة نتنياهو بصفته رئيس الوزراء. كان واضحاً أن نتنياهو عازم على الاستمرار في تصعيد خلافه مع واشنطن، ولكن ما لم يكن واضحاً للكثيرين هو عمق الأزمة الداخلية في واشنطن، وأمور أخرى تدخلت جميعها لإقناع صانع القرار الأمريكي بأن إسرائيل لامست بالفعل الحدود المحظور الاقتراب منها، بل وربما تجاوزتها. من هذه الأمور:

*أولاً: صعّدت الدول العربية ضغوطها على الحليفة الكبرى للضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار. وتعلم هذه الدول أن المقاومة يساعدها وقف إطلاق النار. وتعلم أيضاً، وهو الأهم، أن هذه الحرب أشعلت في الشعوب العربية نيران غضب لا عهد لها بمثلها. هذا الوضع، لو استمر، لهو أخطر على الاستقرار السياسي في كل هذه البلاد من أي عامل آخر.

*ثانياً: استعادت القضية الفلسطينية مكانة مرموقة، ولعلها المكانة العالمية الأمثل منذ نشأة الصراع حولها. هذه المكانة لا تخدم بأي شكل مصالح أمريكا، ولا أهداف إسرائيل، واليهودية العالمية.

*ثالثاً: حذّرت واشنطن كل الدول من توسيع نطاق الحرب الدائرة في غزة، وراحت تساند هذا التحذير بتحريك أسطول بعد آخر إلى شرق المتوسط، وجنوب البحر الأحمر، وزيادة القوة الإسرائيلية المحاربة، وتقديم خدمات استخباراتية سهلت لإسرائيل عمليات اغتيال قادة عسكريين، إيرانيين وفلسطينيين، في أنحاء متفرقة من الشرق الأوسط.

*رابعاً: دارت مناقشات وحوارات في أوروبا، وفي الشرق الأقصى، أقلّها معلن. لم يخفِ أغلب المشاركين فيها خيبة أملهم في السياسة الأمريكية الراهنة.

بالتدخل الأمريكي الفاضح والواضح في شؤون إسرائيل الداخلية والحساسة يجازف الرئيس بايدن، وكثيرون من أعوانه، ومن المرشحين للكونغرس في انتخابات الخريف، بمواجهة صريحة وللمرة الأولى مع الجماعة الصهيونية الأمريكية. أجازف فأقول إن أمريكا لن تقدر على استعادة «الوضع القائم قبلاً»، سواء في الشرق الأوسط، أو في إفريقيا، أو في فنائها الخلفي، بل ولن تقدر، بحالتها الراهنة، وبحلفها المنهك والمضطرب، على المحافظة على الوضع القائم في أغلب أنحائها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/35ufreh9

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"