أزمة غزة.. اجتهادات في فهم ما حدث

00:44 صباحا
قراءة 4 دقائق

جميل مطر

كعادة فريقنا كلما استعصى الفهم وتعقدت السبل واختلفت الآراء اجتمعنا، وعلى غير عادتنا وقع اجتماعنا هذه المرة على الهواء. حدث خلال الشهور الستة الماضية، ما استعصى علينا فهمه، وما اختلفت عليه المواقف وسبل الخروج منه ما استدعى من جانبنا اجتماعاً. أما ما اتفقت عليه الآراء فكان الأمر البديهي، وهو أن نكبة ثانية حدثت، وأن دول المنطقة تصرفت بشكل مختلف عن تصرفها خلال النكبة الأولى.

ببساطة، أرجع عدد من المشاركين اختلاف تصرف دول جوار فلسطين في نكبة أولى عن تصرفها في نكبة ثانية، وبالتحديد إقدامها في النكبة الأولى على التدخل العسكري الصريح وتعمدها عدم التدخل في الثانية، أرجعها إلى الآتي:

{ أولاً: خشية عامة في عواصم الجوار من أن تأتي النكبة الثانية بمواصفات النكبة الأولى. نعرف الآن أن بعض المواصفات، وبخاصة في الحرب كما في النتائج المباشرة وغير المباشرة، كان كارثياً.

{ثانياً: شكوك في القدرة الذاتية لكل دولة على حدة بالنسبة للقوة الإسرائيلية المعززة بالقدرات الأمريكية والبريطانية، أو الغربية عموماً، وشكوك أقوى في القدرة العربية على التصدي لجيوش الغرب، إضافة إلى شكوك في مدى تناسب الإرادتين الروسية والصينية مع اللحظة الراهنة في تطور النظام الدولي، وشكوك أكثر في نوايا وقدرات الجانب الفلسطيني في هذا الصراع الوجودي.

{ثالثاً: الموقف من العامل الإيراني. لعبت إيران دوراً مزدوجاً في مراحل صنع وتطور النكبة الثانية. إذ بينما نجحت في تعزيز قوة جناح أو أكثر داخل الساحة الفلسطينية للعمل ضد إسرائيل، فقد فشلت في خلق جبهة شرق أوسطية تحمي فلسطين والمقاومة، وداعميها، من وحشية رد فعل إسرائيل ومن جبروتها.

انتقلنا لمناقشة بدائل المستقبل، بدائل تقلل من فرص العودة الدورية لنكبة بعد أخرى. لاحظت من موقعي في الاجتماع أن لا أحد من الحاضرين عرض بديلاً يكفل للفلسطينيين مستقبلاً آمناً، ومستقراً لعقود عدة قادمة. معذورون ولا شك، فالانطلاق من وضع دولي غير مستقر ولا ثابت المعالم ووضع إقليمي لا يبعث على التفاؤل. مع ذلك ناقش المشاركون بدائل أقل طموحاً يمكن أن توفر فرصاً إيجابية وإن محدودة. ناقشوا:

{أولاً: يمكن لمشروع دولي، على نهج مشروع مارشال لإعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، أن يخلق فرصاً جديدة أمام مختلف دول المشرق. حاول صاحب الفكرة بأن وضع لفكرته شروطاً. من هذه الشروط أن يكون البديل المقترح نابعاً من إرادة دولية متعددة الأطراف والصين فيها طرف مؤسس ورئيسي. يشترط أيضاً أن تكون إيران عضواً مستفيداً كبقية الأعضاء ولا تكون لإسرائيل أية ميزة خاصة. يكون لفلسطين الوضع المميز باعتبارها بؤرة المشروع والمستفيد الأكبر من برامج الإعمار وبناء الدولة.

{ثانياً: للترويح عن الحاضرين وإثارة خيالاتهم راح أحدهم يطرح حلم العمل على زرع خلافات أو تعميق المتوافر منها بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وفي معرض دفاعه عن موقفه قال إن هذا الفعل جارٍ العمل به في العلاقات الدولية، تستهجنه الدول وتمارسه. المهم، حسب رأيه، أن تثق الجماعة العربية بإمكاناتها، وهي ليست قليلة ولا ضعيفة، وأن تتبنى خططاً طويلة الأمد. وقد أثبتت الأيام أن العلاقات بين هاتين الدولتين يمكن أن تصاب بالضرر. لا يخفى أن «حماس» بصمودها وبكلفة غالية كادت تفلح في تحقيق ذلك من دون أن تقصد، أو تتعمد.

{ثالثاً: العودة إلى أفكار التكامل الاقتصادي والأمني العربي، وبالاستفادة من التجارب السابقة، مثل أهمية أن يبدأ بسيطاً، وينهض متدرجاً ومنفتحاً على العالم الخارجي، بخاصة على مجموعات دول الجنوب.

هذه المبادرات تعرضت بدورها لانتقادات متنوعة، أهمها بطبيعة الحال فشل نسبي لمختلف تجاربها السابقة على امتداد عمر النظام الإقليمي العربي، وفي الوقت نفسه غياب أية بوادر أمل، أو توافر النية في الإصلاح أو ابتكار أنظمة تكامل جديدة. مع ذلك تخرج الآن من تحت ركام الدمار في فلسطين وردود فعل الشعوب الأجنبية لأزمة غزة والضفة الغربية وتجربة حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، تخرج اجتهادات تنحو منحى بعث نهضة عربية شاملة لردع إسرائيل، ووقف تمدد الاستيطان اليهودي لتحقيق حلم إقامة دولة إسرائيل العظمى.

نسبة معتبرة من المشاركين ترى أن العرب ما زالوا بعيدين عن تحقيق مثل هذه المبادرات الحالمة في نظرهم لأسباب أهمها: (1) نفور الطبقات الحاكمة من المؤسسات فكراً وممارسة (2) التخلي عن التزام العقيدة القومية (3) صعود متوال في الانقسامات الطائفية (4) اتساع الفجوات الاقتصادية والاجتماعية داخل الأمة وداخل أجزائها (5) استمرار التوحش الإسرائيلي. (6) عجز الأمة وقياداتها عن توليد زعامات قومية أو إقليمية. (7) الميل المتزايد لتسوية أزمات الديون المستحكمة على مستويات ثنائية عوضاً عن الحلول العربية الجماعية، أو متعددة الأطراف.

بحكم الظروف اجتمعنا في سرعة، وانفض اجتماعنا بسرعة. خرجنا وقد ازداد أكثرنا اقتناعاً بأن الأزمة بثناياها ومرتفعاتها، أو بأخاديدها وقممها، باقية معنا لزمن قد يطول. لن يفيد إلا النهوض والرقي وامتلاك نواصي القوة، والانتباه إلى حقيقة أفرزتها أزمة غزة، وهي أن كل دول الجوار العربي بالنسبة إلى العقل اليهودي الفاشي ليست إلا مواقع استيطان أو قواعد نفوذ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3zc5wfv6

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"