مستقبل معقد وصعب وغريب

00:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

جميل مطر

تكثر هذه الأيام في العديد من مواقع التأثير والنفوذ الكتابة والتفكير بمستقبل العالم. بعض ما يتردد من أفكار واجتهادات وينشر أو يتسرب يعكس حالة أقرب ما تكون إلى الحالة السابقة مباشرة للمراحل الثورية التاريخية، مراحل وقعت فيها تحولات جذرية في منظومات فكرية وعقائد دينية وسياسية واجتماعية، مراحل شهدت كثرة في مظاهر ومؤشرات وبوادر انحدار أو صعود إمبراطوريات وقوى عظمى، ومنظومات فكرية سياسية واجتماعية رسخت لعقود أو قرون، وعقائد دينية انتسب أو ينتسب لها ملايين أو بلايين البشر، شهدت أيضاً موجات هجرة كثيفة من أقاليم إلى أخرى حاملة معها شذرات أو كتلاً من المفاهيم والممارسات المختلفة في الجوهر والمظهر عن السائد في الأقاليم المستقبلة للهجرات، حاملة أيضاً مزيجاً قلقاً من خيبات أمل عميقة وأحلام صعبة المنال.

أشهد بأن الظاهرة، وأقصد الحالة «الثورية» أو «الحالة ما قبل الثورية» الراهنة في عالم اليوم، صارت تعكس نفسها في كثير من سلوكيات وكتابات وخطب مسؤولين ومفكرين لهم قيمتهم ومكانتهم في مجتمعاتهم، وبالتالي تؤثر مباشرة وبعمق في معتقدات شعوبهم وسلوكياتها. أخص بالمثال مجموعات من مؤشرات راهنة للتغيير القادم، أو المحتمل، في أربع حالات، وهي الحالة الأمريكية والحالة الإسرائيلية والحالة الأوروبية والحالة الدينية إن صح التعبير على ضوء شهادة لافتة للنظر والاهتمام صادرة عن، أو باسم، بابا الفاتيكان. كلها معاً بالإضافة إلى مؤشرات أخرى لحالة في الهند وحالات من نوع مختلف في الإكوادور وهايتي وميانمار، وحالات عربية في أربع أو خمس دول على الأقل، أقول كلها معاً ترسم خريطة تؤذن بمستقبل للعالم عنيف ومحفوف بمخاطر جمة.

على كل حال تختص هذه المقالة الموجزة بأهم هذه الحالات، على الأقل في اللحظة الراهنة، باعتبار أن التطورات في كل مكان تحدث بسرعة فائقة وبغير نظام.

الحالة الأمريكية: حالة أراقبها عن كثب منذ مدة غير قصيرة، ولعلها أهم الحالات باعتبار مكانة أمريكا كقطب أعظم في نظام دولي لا يزال يحمل صفة أو عنوان نظام أحادي القطبية.

أعتقد، مستنداً إلى وقائع بعينها، أن الانحدار حدث. صار واقعاً في السياسة الدولية ولم يعد مجرد احتمال، ومع الوقت وفي ظل تطورات عديدة صار أمراً مقلقاً وتهديداً حقيقياً لمستقبل الولايات المتحدة. لم يعد سراً أو خبراً مكتوماً أن هواجس عديدة أصبحت تخيم على أجواء العمل السياسي. من أهم هذه الهواجس وبخاصة تلك التي كشف عنها بوضوح كبير وبقلق بالغ الحديث المتكرر عن احتمالات نشوب حرب أهلية في زمن قريب في الولايات المتحدة. قيل لي من رفاق أمريكيين لهم قيمتهم في منظومة العصف الفكري، إن الحديث عن حرب أهلية في أمريكا مبعثه الاستقطاب السياسي المتزايد داخل المجتمع الأمريكي من ناحية والزيادة الكبيرة في هيمنة الميول القومية المتطرفة داخل قطاع السكان البيض ضد المهاجرين والأقليات الأخرى. هذه الميول استجاب لها قادة سياسيون وقيادات في الحزبين الحاكمين مثل دونالد ترامب وجو بايدن اللذين رفعا شعارات من نوع «استعادة أمريكا قوية مرة أخرى».

اختلف المحللون على توصيف وليس على تشخيص مستقبل أمريكا. هناك أكثرية وبخاصة في صفوف الإعلاميين ومن علماء السياسة، تعتقد أن القادم حرب أهلية. من هؤلاء باربرا والتر عالمة السياسة التي أعلنت أن الحرب الأهلية قادمة لا محال والأسباب في نظرها عديدة وواضحة أهمها، أن النظام القائم بوضعه الحالي غير قابل للإصلاح.

يقول ريتشارد هاس ما معناه إنه لا يستبعد أن تحدث في الولايات المتحدة حالة من العنف المستدام على نمط الحالة الإيرلندية. هنا لا بد أن نتذكر جزءاً من خطاب انتخابي ألقاه المرشح الرئاسي في الانتخابات القادمة دونالد ترامب بلسانه وليس نقلاً عنه، تعمد فيه أن يصف شعوب أمريكا اللاتينية بأنهم ليسوا بشراً، وهو الجزء من الخطاب الذي حظي بتصفيق شديد وتداولته بالتعليقات والاهتمام معظم أجهزة الإعلام.

لم أذكر أن وزارة الأمن الداخلي الأمريكية في تقرير حديث لها كانت قد تنبأت بأن الانتخابات الرئاسية التي ستجري هذا العام قد تشهد، أو تسفر، عن عنف محتمل. المدهش في الأمر أن الرئيس السابق ترامب هدد في خطاب انتخابي عقد قبل أيام بأن حماماً من الدم سوف يقع في حال لم يفز في انتخابات نوفمبر القادم.

وسط هذه المواقف ظهر موقف هو الأشد تشاؤماً. إذ أعلن أفراد عن نظرية سياسية جديدة تجد مؤيدين غير قليلين، تدعو النظرية إلى ضرورة «تسريع» عملية الانحدار للوصول بالسرعة الممكنة وفي أقصر وقت ممكن إلى محطة النهاية، أي إلى المصير المحتوم، وحينها يبدأ التغيير وإلا ستبقى أمريكا في هذا الوضع من العنف الداخلي وتخبط الإرادة والخضوع لما يسمى ابتزاز المهاجرين والدول الحليفة في أوروبا وغيرها كإسرائيل وتايوان للحصول على الدعم المالي والعسكري الأمريكي رغم الظروف الصعبة التي يمر بها الاقتصاد الأمريكي.

أمريكا قطب أعظم. ولكن تراجعت الثقة فيها وبخاصة في الآونة الأخيرة نتيجة ارتباك سياستها الخارجية.. نعيب عليها انزلاقها وراء إسرائيل وهو الانزلاق الذي كشف عن مدى الضعف الذي تسرب بالفعل إلى قلب وأحشاء القطب الأعظم الذي كثيراً ما عشنا معه أحلام الحرية وقدسية الحقوق، ومنها حق تقرير المصير فتخلى عنا، أو لعله هو نفسه يستعد ليتخلى عن نفسه بتخليه عنها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"