عادي
مع اقتراب الشتاء الرابع للحرب بين موسكو وكييف

أوروبا تخلع جلباب «الطاقة الروسية»

23:39 مساء
قراءة 8 دقائق
خط نورد ستريم 2 كان يفترض أن ينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي لأوروبا لكن جرى تفجيره
إحدى ناقلات الغاز المسال في طريقها لأوروبا
خط نورد ستريم الأول
أورسولا فانديرلاين رئيسة المفوضية الأوروبية
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

د. أيمن سمير

أمام محطة السكة الحديد العملاقة في مدينة فرانكفورت الألمانية، كانت المقاهي تزدحم بروادها، سواء في الداخل، أو في المساحات الشاسعة أمام تلك المقاهي، وعندما جلست بجوار أحد الأصدقاء الألمان، قلت له يبدو أن الطقس في بداية شهر إبريل/ نيسان أفضل بكثير من السنوات الماضية، فردّ عليّ، وبسرعة، قائلاً «هذا الطقس الدافئ كان أحد الأسباب الرئيسية في تعزيز قدرة الدول الأوروبية، وفي المقدمة منها ألمانيا للمضي في قرارها للتخلي عن الغاز والنفط الروسي، وبعد حديث طويل عن الطاقة، وقدرة أوروبا على الاستقلال عن الغاز والنفط والفحم والكهرباء واليورانيوم، القادمة من روسيا، كانت الإجابة من صديقي الألماني تحمل درجة ثقة كبيرة بالتخلي عن مصادر الطاقة الروسية، لكن هذه الدرجة من الثقة لا تصل إلى «اليقين الكامل» بنجاح أوروبا بنسبة 100%، خوفاً من تطورات الحرب على الجبهة الأوكرانية، بخاصة في ظل التفوق الروسي على طول الجبهة، من خاركيف شمالاً، حتى زاباروجيا جنوباً.

اعتمد الرخاء والازدهار الأوربي خلال العقود الأخيرة على 3 مرتكزات رئيسية، وهي، قلة الإنفاق العسكري، وترك هذا الأمر للولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وثانياً عبر النفاذ السلس للمنتجات الأوروبية للسوق الصينية، والمرتكز الثالث كان هو الحصول على الغاز الروسي «الرخيص» الذي يأتي عبر الأنابيب، والذي أسهم بقوة في تعزيز منافسة الصناعات الأوروبية لغيرها من المنتجات، لكن منذ اليوم الأول للحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022 راهنت كل من روسيا وأوروبا على ملف الطاقة لإضعاف الطرف الآخر.

  • المعادلة الروسية

وفي المقابل، قامت المعادلة الروسية على أن أوروبا لن تستطيع إيجاد البدائل ل«خماسي الطاقة الروسية»، وهو الغاز، والنفط، والفحم، واليورانيوم، والكهرباء، ما يعني أن توقف تدفق الغاز الروسي سوف يدفع مصانع القارة العجوز إلى التوقف، وتغرق مدنها في الظلام، والبرد القارس خلال الشتاء، بما يؤدي إلى قيام التظاهرات الشعبية ضد الحكومات الأوروبية، الأمر الذي يقود لانحياز الرأي العام الأوروبي لمصلحة موسكو، وبما يؤدي في النهاية إلى «تفكك الموقف الأوروبي»، وانهيار «روح الدعم الجماعي» التي تحلت بها دول الاتحاد الأوروبي منذ بداية الحرب، كما اعتمدت الحسابات الروسية على أن أوروبا يستحيل عليها تعويض الكميات الضخمة التي تستوردها، بخاصة الغاز، الذي كان يعتمد عليه الأوربيون بنسبة 40 % من وارداتهم.

على الجانب الآخر قامت المعادلات الأوروبية في ملف الطاقة، ليس على ضرورة «التخلص من التبعية» للطاقة الروسية فقط، بل حرمان الكرملين من عائدات الغاز، والنفط، والفحم، واليورانيوم، والكهرباء، حتى لا يستفيد منها في تمويل وإطالة زمن الحرب.. وبعد مرور أكثر من 26 شهراً على الحرب الروسية الأوكرانية، والاستعداد للشتاء الرابع سجل كل طرف «نقاطاً» ضد أهداف وخطط الجانب الآخر، لكن من دون أن يلحق به «الضربة القاضية»، فرغم ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا منذ يونيو 2022 إلا أن نجاح المفوضية الأوروبية في ملء ما يقرب من 90% من مخزنات الغاز الأوروبية أدى إلى تراجع أسعار الطاقة لمستويات ما قبل الحرب، في ظل تحديد المفوضية الأوروبية لسقف سعري لكل من الغاز والنفط الروسيين.

لكن على الضفة الأخرى، استطاعت روسيا عن طريق خطتها «الأنبوب إلى الشرق» التي وضعتها قبل الحرب في تحويل أغلبية منتجاتها من الطاقة التي كانت تصدرها لأوروبا نحو الأسواق الأسيوية، بخاصة الصين والهند، فما هي الخطوات التي قامت بها أوروبا ونجحت من خلالها في تجاوز أزمة شتاء 2023 - 2024؟ وهل انتهى التحدي، أم سيظل قائماً في الشهور المقبلة؟ وماذا لو توقفت الحرب، هل يمكن أن تعود «الاعتمادية الأوروبية» على مصادر الطاقة الروسية من جديد؟

  • الاستدارة الأوروبية

قامت كل الخطط في الاتحاد الأوروبي بعد الحرب على تحقيق «استدارة أوروبية كاملة» بعيداً عن مصادر الطاقة الروسية، حيث كانت الدول الأوروبية تعتمد على نحو 40% من احتياجات الطاقة على روسيا، وارتكزت الاعتمادية الأوروبية على الطاقة الروسية قبل 24 فبراير2022 على مجموعة المحاور، وهي:

أولاً: الكهرباء الروسية حيث كانت موسكو توفر لجارتها فنلندا نحو 10% من احتياجات هلسنكي من الكهرباء، لكن بعد انضمام فنلندا لحلف «الناتو»، في 2023 أوقفت روسيا تصدير الكهرباء لفنلندا، كما بدأت تخفيض صادرتها من الكهرباء حتى لجيرانها في آسيا الوسطى، منذ أغسطس.

ثانياً: «اليورانيوم»، فالمفاعلات الأوروبية كانت تعتمد على شركة روس أتوم الروسية في 40% من حاجاتها، والمواد المشعة اللازمة لإنتاج الطاقة النووية السلمية، ورغم فرض حظر على اليورانيوم الروسي، إلا أن بيانات فرنسية كشفت زيادة كمية اليورانيوم المخصب الذي استقبلته باريس عامَي 2022 و2023.

ثالثاً: «الفحم».. قبل الحرب كانت أوروبا تشتري سنوياً نحو 45% من احتياجاتها من الفحم من روسيا، بنحو 8 مليارات دولار، وهي كمية كانت تساوي 24% من إجمالي الصادرات الروسية عام 2021، والتي بلغت 262 طناً، وتم اتخاذ قرار جماعي بالحظر الكامل للفحم الروسي في إبريل 2022، ودخل القرار حيز التنفيذ في أغسطس، أي بعد 120 يوماً، كفترة انتقالية،.

رابعاً: «النفط الروسي»، اعتمدت أوروبا لفترة طويلة على النفط الروسي، وقبل 24 فبراير 2024 كانت أوروبا تشتري نحو 18% من وارداتها النفطية من روسيا، وهي تشكل نحو 50% من صادرات روسيا النفطية، وتتكون من 3.1 مليون برميل من النفط، و1.3 مليون برميل من المشتقات النفطية يومياً، وكانت كل من هولندا وألمانيا تستوردان معاً 1.1 مليون برميل يومياً، بينما كانت روسيا تجني نحو 90 مليار دولار من النفط ومشتقاته التي تصدرها لأوروبا سنوياً، بمعدل يومي يصل لنحو 250 مليون دولار، وبعد اندلاع الحرب اتفقت الدول الأوروبية على فرض حظر تدريجي«على النفط الروسي ومشتقاته بدأت بنسبة 65% من النفط الروسي المنقول بحراً عن طريق السفن، لكنها أبقت على الخط الوحيد لنقل النفط وهو خط «دورجبا» الذي ينقل النفط للمجر، وسلوفاكيا، والتشيك، وهي دول حصلت على استثناء من المفوضية الأوروبية للاستمرار في شراء النفط من روسيا، لأنها لا تستطيع أن توفر البديل السريع والمستدام، وتوقفت بولندا وألمانيا نهائياً، عن شراء النفط الروسي بنهاية عام 2022، وبهذا توقف نحو 90% من منقولات هذا الخط إلى أوروبا.

خامساً: «بلو ستريم».. وهو أقل الخطوط التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، ويمرّ عبر تركيا والبحر الأسود بطاقة لا تزيد على 16 مليار متر مكعب.

سادساً: «ترك ستريم».. وهو خط لنقل الغاز الروسي عبر تركيا والبحر الأسود إلى بلغاريا ورومانيا ودول جنوب أوروبا، بطاقة سنوية تصل لنحو 31.5 مليار متر مكعب من الغاز.

سابعاً: «أنابيب الصداقة»، وهي خطوط لنقل نحو 32 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، من روسيا إلى أوروبا، عبر أوكرانيا، ثم سلوفاكيا، حتى تصل لوسط أوروبا.

ثامناً: «يامال أوروبا».. وهو خط لنقل الغاز من حقول يامال الروسية لأوروبا، عبر بيلاروسيا وبولندا، ومنها لألمانيا، وكان ينقل نحو 33 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، وبعد توقف ضخ الغاز الروسي تستفيد منه حالياً ألمانيا وبولندا في الاتجاه العكسي بنقل الغاز من ألمانيا لبولندا.

تاسعاً: «نورد ستريم 2»، وكان مخططاً له أن ينقل الغاز أسفل بحر البلطيق من روسيا إلى ألمانيا، وتكلف إنشاؤه نحو 11 مليار دولار، وكان يفترض أن ينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز مثل «نورد ستريم 1»، ورغم ضخ الغاز فيه إلا أن المفوضية الأوروبية رفضت أن تمنحه ترخيص العمل خلال عام 2021، ثم نشبت الحرب في 2022، وتوقف المشروع بعد تخريبه مع خط نورد ستريم الأول، عندما أكدت السويد في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وجود 4 ثقوب في الخطين.

عاشراً: «نورد ستريم الأول» وهو أنبوب لنقل الغاز من الحقول الروسية حتى ألمانيا، ويمرّ أسفل بحر البلطيق، وكان ينقل نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، وزادت الكمية التي نقلها إلى أوروبا لنحو 59.7 مليار متر مكعب في عام 2021، أي قبل الحرب بشهرين فقط.

  • خريطة طريق للطاقة الأوروبية

فور بدء الحرب الروسية الأوكرانية، بدأت دوائر صنع القرار في أوروبا البحث عن مقاربة جديدة تؤمّن الحصول على الطاقة، لكن بعيداً عن الطاقة الروسية، وكان توفير مزيد من الأموال هو التحدي الأكبر الذي نجحت فيه بروكسل عبر توفير نحو 300 مليار دولار، ومن ثم التحرك سريعاً لتحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية، وهي:

1 -مشاركة المستهلكين في تحدّي الطاقة:

وتجلى ذلك في بث حملات توعية بخطورة التحدي الذي يواجه الشعوب الأوروبية في مجال الطاقة، وإدراكاً من الشعوب الأوروبية لهذا الأمر، تراجع استهلاك الأوروبيين من الطاقة في عامي 2022 و2023 بنسبة 20% مقارنة بالسنوات الخمس السابقة. ففي فرنسا على سبيل المثال، تراجع الاستهلاك خلال العامين الماضيين بنسبة سنوية تصل لنحو 32%، ونجح الاتحاد الأوروبي في تطبيق خطة حازمة لترشيد استهلاك الطاقة.

2 - «نجاح عملية التخزين»:

خاصة بالنسبة إلى الغاز، وشكّل هذا تحدياً كبيراً في النصف الأول من عام 2022، لأن طبيعة توريدات الغاز تقوم على «العقود طويلة الأجل»، وأغلبية الغاز من أستراليا والشرق الأوسط كان يتجه لأسواق أخرى بعيداً عن أوروبا، ونجحت أوروبا في ملء الخزانات بنسب عالية تجاوزت في منتصف عام 2023 نحو 80%، بينما الآن وصلت لنحو 90%.

3 - «التغلب على المضاربات في الأسعار»:

وتحقق ذلك عبر تحديد دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى «سقفاً سعرياً» لأسعار النفط الروسي المنقول بحراً، في حال شرائه ب65 دولاراً للبرميل، مع مراجعة القرار كل 6 أشهر، كما حددت الدول الأوروبية سقفاً لشراء الغاز بشكل موحد، وهو 180 يورور، لكل ميغا/ واط ساعة، و56 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية أوروبية.

4 - «طلبيات جماعية للغاز»:

هناك فرضية تؤمن بها المفوضية الأوروبية تقول إن ارتفاع أسعار الطاقة لم ينتج خلال العامين الماضيين عن الحرب الروسية الأوكرانية، بل كان نتيجة لعدم الربط الدقيق بين سعر الغاز، وسعر الكهرباء، ومنذ بداية هذا العام تعتمد المفوضية الأوروبية على المشتريات المشتركة من خلال توفير 13.5 مليار متر مكعب من الغاز، أو ما لا يقل عن 15% من الغاز المطلوب لتلبية هدف تعبئة 90% للتخزين للعام الجاري.

5 - «الدعم المتبادل بين الكهرباء والغاز»:

وهذا الأمر يشكل استثماراً في الشبكة الأوروبية الموحدة للغاز والكهرباء، فعلى سبيل المثال تستطيع ألمانيا أن تستورد مزيد من الغاز عبر النرويج، والدانمارك، والمملكة المتحدة، بدلاً من روسيا، كما يمكن «تبادل الكهرباء» بين الدول الأوروبية من خلال تعزيز الطاقة النووية، أو الطاقة المتجددة، أو الطاقة الكهرومائية والفحم.

6 - «الطاقة البديلة»:

وتتمثل في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ونجحت أوروبا في ذلك عبر اتفاق 27 دولة في الاتحاد الأوروبي على أن تكون الدول الأوروبية ملزمة بإضافة الألواح الشمسية إلى المباني التجارية والعامة، اعتباراً من عام 2025، وإلى المنازل الجديدة اعتباراً من عام 2029، وتقوم خطة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان دير لاين، على ضرورة «زيادة حصة الطاقة المتجددة» في الاتحاد الأوروبي إلى الضعف، وجعل الطاقة الشمسية أكبر مصدر للكهرباء في أوروبا، عبر خطة تهدف أن تكون 45 % من إجمالي الطاقة المستهلكة في الاتحاد الأوروبي من الطاقة الجديدة بحلول عام 2030.

7 - «واردات بديلة»:

نجحت القيادة الأوروبية، عبر جولات مكوكية وحوافز مالية وأدوات دبلوماسية متنوعة، في عقد سلسلة من الصفقات البديلة في الغاز والنفط والكهرباء، منها نجاح المفاوضات بين الدول الأوروبية والنرويج لزيادة الصادرات النرويجية من الغاز إلى 253 مليون متر مكعب، يومياً، والاتفاق مع أذربيجان لنقل الغاز الأذربيجاني عبر خط الأنابيب العابر للبحر الأدرياتيكي إلى إيطاليا، وخط أنابيب الغاز الطبيعي عبر تركيا، وزيادة واردات الغاز المسال من الولايات المتحدة التي شحنت نحو 30 مليار متر مكعب من الغاز المسال إلى أوروبا بنهاية 2023، إضافة إلى توقيع إيطاليا وألمانيا وفرنسا، صفقات غاز ضخمة مع الجزائر التي أصبحت منذ عام بداية عام 2023، المورد الثاني للغاز لأوروبا بعد النرويج، حيث ترسل الجزائر يومياً للقارة العجوز عبر الأنابيب نحو 95 مليون متر مكعب يومياً، يمكن أن تصل إلى 115 مليون متر عند الاستفادة الكاملة من خط «ميد غاز»، الرابط مع إسبانيا، وخط «ترانسميد» الذي يربط الجزائر بإيطاليا عبر تونس.

والثابت، أن مجموعة من العوامل ساعدت أوروبا على التغلب على تحدي التخلص من التبعية لمصادر الطاقة الروسية، منها ضعف النمو الاقتصادي الصيني خلال عامي 2022 و2023، وتحسّن الطقس في أوروبا بشكل واضح خلال شتاء 2023 و2024، ما منح صديقي الألماني الفرصة للجلوس في مقهى مفتوح في بداية شهر إبريل/ نيسان، وهو توقيت كان في السابق تنهمر فيه الأمطار وأحياناً الثلوج.

[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycwwz5w2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"