عادي
أفق

"مسيرة الفيل"

01:48 صباحا
قراءة دقيقتين

عندما ينهي القارئ رواية مسيرة الفيل للبرتغالي جوزيه ساراماغو الحاصل على نوبل في الآداب عام 1998 لابد أن يسأل نفسه: ماذا يريد ساراماغو أن يقول في هذه الرواية؟ خاصة أن كل عمل لساراماغو يحمل فكرة جديدة تختزن بداخلها دلالات عدة .

الرواية تستند إلى واقعة مشهورة تاريخياً حدثت في القرن السادس عشر عندما قام ملك البرتغال في عام 1561 بإهداء أرشيدوق النمسا فيلاً ضخماً يدعى سالمون، الفيل وسائسه الهندي سوبهرو، وهو اسم يعني الأبيض، بطلا الرواية أو، على وجه الدقة، الرحلة التي بدأت من لشبونة وانتهت في فيننا مروراً بإسبانيا ثم إيطاليا وفرنسا، وككل أعمال ساراماغو تمتلئ الرواية بمعلومات تمتزج فيها الحقيقة من قبل سوبهرو والأساطير من جانب الأوروبيين في كل ما يتعلق بالفيل .

في رحلة سالمون الطويلة هذه يستكشف ساراماغو أوروبا في أواخر العصور الوسطى حيث قيم الفروسية الجوفاء وانتشار الاعتقاد بالسحر وتفشي الجهل والعزلة عن كل ما يحدث في العالم المحيط، في مشاهد عدة يسأل سوبهرو: هل هذه أوروبا المتحضرة؟ ولا نعرف في هذا الانزياح التاريخي وفي ظل تعدد الأصوات في الرواية هل يقصد سوبهرو أوروبا في لحظته تلك مقارنة بالهند في اللحظة نفسها أم هي إدانة مباشرة ومعاصرة من ساراماغو لماضٍ غارق في التخلف؟

مشهد الكائن الضخم الذي لا يعرف عنه السكان شيئاً ولم يشاهدوه من قبل، يثير الخوف كثيراً والرغبة في الفرجة والمشاهدة من بعيد والإطلالة بحذر على هذا الكائن الخرافي، وتصل سخرية ساراماغو من ذلك الزمن ذروتها عندما يقترح أحد رجال الدين في قرية يمر فيها الفيل بتعميده، وفي قرية ثانية يستغل رجل دين آخر وجود ذلك الحيوان العجيب لإحداث معجزة للكنيسة الكاثوليكية المهددة بإصلاح لوثر آنذاك، فيطلب من سوبهرو أن يجعل الفيل يركع أمام إحدى الكنائس وإلا سيلفق لهما تهمة ما أمام محاكم التفتيش المنتشرة في تلك الفترة، سوبهرو لا يفهم ما يحدث حوله، ولذلك فالاستفهام الدائم يتحول إلى عزلة من نوع آخر وجهل من نوع آخر أيضاً لمفردات البيئة المحيطة به .

بعد عامين من وصول الفيل إلى فيننا يموت، حيث لم يجد الرعاية ولم يناسبه المناخ البارد، وبمرارة يقول ساراماغو ولم ينفعه الركوع ولا يعرف أحد أين ذهب سوبهرو .

الفيل، كما رسمه ساراماغو في رواية تحفر في تاريخ مسكوت عنه يحتاج إلى إعادة بناء، يرمز إلى كل ما هو مختلف في مكان مختلف بدوره عن العالم، وهو في الرواية الشديدة الواقعية والابتعاد عن الغرائبية والأجواء السحرية، كائن يناوش وجوده الطبيعي جهل البشر الذي يقودهم في لحظات الظلام، ليس إلى صلف تجاه بشر آخرين وحسب، ولكن تجاه مفردات البيئة كافة، وفي إشارة لافتة ومضمرة ربما إلى ما تفعله الرأسمالية الآن في أعلى لحظاتها استنارة من تخريب يومي ومستمر للطبيعة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"