عادي
من أقصى اليسار إلى الوسط.. المرشحة الأوفر حظاً

بوكوفا.. حامية التراث وعاشقة التحديات

04:16 صباحا
قراءة 6 دقائق
عندما كان الشيوعي العتيد جورجي بوكوفا، رئيس تحرير «رابوتنشيسكو» اليومية الناطقة باسم الحزب الشيوعي الحاكم في بلغاريا، يداعب طفلته التي ولدت يوم 12 يوليو/تموز 1952، واختار لها اسم (إيرينا) وهو من الأسماء الشائعة لدى السلافيين الشرقيين، لم يكن يعلم يومها والمد الشيوعي يملأ الأرجاء، مسوداً به صحيفة الحزب، متحدثاً عن طبيعة صراعات شرق أوروبا الاشتراكية مع أوروبا الغربية ويعبئ بها الشارع البلغاري، أن ابنته هذه هي من ستقود بلغاريا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وأنها ستكون أيقونة من أيقونات بلغاريا، ولكن على النمط الغربي بعد أن جرى اختيارها مديراً عاماً لمنظمة اليونيسكو، كأول امرأة من أوروبا الشرقية تنال هذا المنصب، بعد منافسة حامية شهدتها أروقة المهتمين بالثقافة والتراث على مستوى العالم.
بعد أن درست ايرينا بوكوفا في مدارس لغات انجليزية في العاصمة صوفيا، ومثل أبناء جيلها انخرطت في صفوف الحزب الشيوعي البلغاري، ثم غادرت إلى الاتحاد السوفييتي وقتها، للالتحاق بمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، والذي نالت فيه بكالوريوس وماجستير في العلاقات الدولية عام 1976، وبعد عودتها إلى صوفيا تم إلحاقها مباشرة بوزارة الخارجية، في وظيفة سكرتير ثالث، لتطير بعدها إلى نيويورك للعمل في بعثة بلادها بالأمم المتحدة عام 1977، وبقيت فيها إلى عام 1984 لتعمل سكرتيراً أولاً في إدارة نزع السلاح بالأمم المتحدة إلى عام 1990، وكانت استغلت فترة وجودها في الولايات المتحدة لارتياد جامعة ميريلاند والالتحاق ببرنامج عن السياسة الخارجية الأمريكية في عملية صنع القرار.
ظلت بوكوفا عضواً في الحزب الشيوعي البلغاري حتى عام 1990، عندما تم تغيير اسم الحزب إلى الاشتراكي البلغاري، وألغت عضويتها بعد إقرار قوانين تمنع موظفي وزارة الخارجية من الانتماء لأي حزب سياسي، ولكنها سرعان ما دخلت البرلمان عام 1991، وانتخبت ممثلة للأغلبية، لتقفز بعدها وتصبح قائماً بأعمال وزارة الخارجية حتى عام 1997، وهي الفترة التي كانت مسؤولة عن ملف انضمام بلادها للاتحاد الأوروبي، وارتفع صيتها عالياً وأحبها الشعب البلغاري كثيرا، قبل أن تغادر الوزارة إلى جامعة هارفارد، لتلتحق بكلية جون كنيدي للإدارة الحكومية، وتنضم للبرنامج التنفيذي في مجال القيادة والتنمية الاقتصادية.
لتعود بعدها إلى بلغاريا بعد انتخابها في البرلمان ضن قائمة «الائتلاف من أجل بلغاريا» في الفترة ما بين 2001- 2005، كنائب رئيس لجنة السياسة الخارجية والدفاع واللجنة الأمنية، ومشرفة على ملف بلادها في الاتحاد الأوروبي، قبل أن تغادر إلى باريس كسفير لبلادها في فرنسا وممثلتها في اليونيسكو، بعد انتخابها في اللجنة التنفيذية، ورئيسة الدورة الاستثنائية الثانية للجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي إلى عام 2009، وهي اللحظة التي قررت فيها الترشح لمنصب مدير المنظمة، لتقود أكبر حملة ضد تسعة مرشحين وكانت معركتها الأساسية مع وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني، والذي كان المرشح الأوفر حظاً لولا تدخل اللوبي اليهودي العالمي ضده، ومناصرته إيرينا، ليعلن فوزها بعد معركة كادت أن تعصف بالمنظمة الدولية في أكتوبر/تشرين الأول 2009، كأول امرأة من شرق أوروبا تفوز بهذا المنصب وتم تنصيبها في احتفال كبير بالعاصمة باريس.
تعرضت بوكوفا أثناء عملها على رأس المنظمة إلى مطبات كثيرة، كان بدايتها عندما انتقد الكاتب الألماني إيليا ترينوف انتخابها للمنصب، مستشهداً بماضيها الشيوعي الشمولي، ووصفه بأنه فضيحة، لكن صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية واسعة الانتشار ساندتها وقالت إن اختيارها كان لأنها لعبت دوراً بارزاً في تحويل بلغاريا من الدوران في فلك السوفييت إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.
وفي يناير/كانون الثاني 2014 دخلت في صراع كبير مع المجموعة العربية وخلفهم الدول الداعمة لفلسطين، بعد أن قررت بوكوفا إقامة معرض بعنوان «الشعب والأرض والكتاب.. 3500 عام من العلاقة بين الشعب اليهودي وأرض «إسرائيل»، ليقوم ممثل دولة الإمارات العربية المتحدة عبدالله النعيمي الذي كان يقود المجموعة العربية بكتابة رسالة عبر فيها عن «قلق عميق واستنكار كبير» للمعرض، وبعد شد وجذب افتتح المعرض يوم 11 يونيو/حزيران 2014 في باريس، في احتفال بمشاركة بوكوفا وعميد مركز سيمون فيزينتال للهولوكوست، الحاخام مارفين هير. المعرض كان برعاية مشتركة من قبل ««إسرائيل»»، كندا، والجبل الأسود، وأطلق عليه «اختراق».
وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 تم إعطاء بوكوفا جائزة خاصة من مركز سيمون فيزينتال في حفل أقيم في واشنطن العاصمة الأمريكية، في حفل حضره كبار الحاخامات ورجال الدولة الأمريكيين من الخارجية ومجلس النواب والشيوخ.
ومن إشراقات عهد بوكوفا في اليونيسكو، قبول انضمام فلسطين عضواً كامل العضوية في المنظمة عام 2011، عندما قررت بوكوفا عرض طلب فلسطين للانضمام للمنظمة، الذي تم تقديمه عام 1989 وكان يجري تجاهله في كل عام، وقد صوتت107 دول لصالح القرار، من بينها فرنسا وإسبانيا والنرويج من دول الاتحاد الأوروبي، وهو القرار الذي وجد ارتياحاً كبيراً في جميع أنحاء العالم العربي، باعتبار «اليونيسكو» أرفع منظمة دولية تنضم لها فلسطين بالعضوية الكاملة.
من أكبر المحن التي تعرضت لها بوكوفا ظهور تنظيم «داعش» واستهدافه الآثار العالمية في تدمر السورية والموصل العراقية، وهو ما دعاها إلى قيادة حملة دولية لإصدار قرار من مجلس الأمن يحظر التجارة في السلع الثقافية من العراق وسوريا، وطلبت اليونيسكو تنسيق الجهود المبذولة في هذا المجال مع المنظمة الدولية للشرطة الجنائية«انتربول»، ورداً على تهديد الآثار العراقية من تزايد العنف وعدم الاستقرار، نفذت بوكوفا خطة طوارئ لحماية الأعمال الفنية من التراث الثقافي في العراق.
ومن أكبر المحن التي تعرضت لها أيضاً، عندما هددت اليابان، في أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي بوقف تمويل اليونيسكو، بشأن قرار المنظمة ليشمل الوثائق المتعلقة مذبحة نانجينغ 1937 في أحدث قائمة لبرنامج «ذاكرة العالم». في حين أن القرار ليس من المدير العام، إلا أن اليابان زعمت أن بوكوفا قد يكون لديها مصلحة في القرار لمغازلة الصين.
نجاحات بوكوفا على المستوى الدولي في قيادة اليونيسكو التي جرى التجديد لها لرئاستها لدورة ثانية، دفعت بلغاريا إلى ترشيحها لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، لخلافة الأمين الحالي بان كي مون، وقالت الخارجية البلغارية في بيان «بتجربتها يمكن للسيدة بوكوفا أن تكون أحد المرشحين المهمين في حملة اختيار أمين عام للأمم المتحدة». وكانت بوكوفا صرحت في الآونة الأخيرة للتلفزيون البلغاري: «تم انتخابي مرتين أمام منافسين أقوياء واعرف كيف اكسب الانتخابات داخل الأمم المتحدة»، وأبلغ وزير الخارجية البلغاري دانيال ميتوف، عبر رسالة رسمية، الأمم المتحدة بقرار الحكومة البلغارية بترشيح بوكوفا، وأشار في رسالته، إلى أنه تم ترشيح بوكوفا؛ لخبرتها الطويلة في مجال السياسة والدبلوماسية وقدراتها القيادية الفاعلة.
ترشيح بوكوفا لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، وجد تأييداً كبيراً حيث نشرت «الغارديان» البريطانية مقالاً مطولاً فحواه تساؤل عن المرأة التي سترأس المنظمة الدولية، وأشار إلى أن بوكوفا هي الأنسب لما لها من خبرات ومهارات دبلوماسية، وتحدثها للغات الانجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية بطلاقة، ولديها علاقات جيدة مع الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن.
كما نشر وزيران إيرلنديان سابقان للشؤون الأوروبية والبيئة مقالا يدعمان فيه ترشيح بوكوفا للمنصب. ونشر ديفيد كلارك، رئيس مؤسسة روسيا، مقالاً في صحيفة «فاينانشال تايمز» يمتدح فيه بوكوفا ويعتبرها المرشح الأوفر حظا. وكتب بيل ريتشاردسون مقال رأي في صحيفة «واشنطن بوست»، قال فيه «ينبغي أن يكون أمين عام الأمم المتحدة القادم امرأة»، معتبراً أن بوكوفا، تحقق العديد من المعايير المطلوبة، وينظر إليها كثيرون على أنها الأوفر حظا، خاصة بعد اتخذت موقفاً قوياً في مجال مكافحة التطرف وتمويل الإرهاب، وناصرت بنشاط تمكين المرأة وتعليم الفتيات .كما اعتبرتها مجلة «فوربس» الشخصية المرجحة للفوز بالمنصب.
بالنظر لحظوظ بوكوفا داخل الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن التي تحدد المرشح الأقرب للفوز، نجد أن بريطانيا تدعم من حيث المبدأ ترشيح امرأة في المنصب هذه الدورة، وعبرت عن ذلك رسميا لكن روسيا، العضو الدائم الآخر، صرّحت، أخيراً، بعدم تقديم الأولوية للجنس في المعايير المعتمدة لاختيار السكرتير العام المقبل،وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد صرّح، قبل أشهر، أنّ ممثلين عن أوروبا الغربية وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية قد شغلوا هذا المنصب حتّى اللحظة، من دون أن تنال أوروبا الشرقية هذه الفرصة حتى الآن. وقال إنّ بلاده قد تدعم ترشيح امرأة ذات كفاءة من أوروبا الشرقية للولاية المقبلة، حتّى وإن كانت الدولة المعنية عضواً في حلف الناتو، في إشارة ضمنية إلى بوكوفا التي تُلبّي شرطين، يؤديان دوراً مهماً في اختيار الأمين العام العتيد، وهما أن تتولى هذا المنصب امرأة و/أو أن يكون الشخص من أوروبا الشرقية، وكلا الشرطين ينطبقان على بوكوفا.
وإذا أخذنا في الاعتبار رضا كلّ من البيت الأبيض والكرملين، للفوز بالمنصب يجب ألا ننسى أن فوز بوكوفا بمنصب مديرة اليونيسكو، لعب فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما دوراً مباشراً جداً، ومن غير المعروف هل سيستمر هذا الدعم أم ستطرأ تغيرات جديدة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"