عادي

زنوبيا ملكة تدمر

05:12 صباحا
قراءة 16 دقيقة

تدمر، هي إحدى المدن، التي كانت كل واحدة منها تعمل كوسيطة للتجارة بين الصين والبحر الأبيض المتوسط، لنقل التوابل والحرير - الذي كانت له أهمية كبرى في تلك الأزمنة؛ فأصبح ذلك الطريق يُعرف بطريق الحرير .

أما طريق نقل التجارة القادمة عبر طريق الحرير، فكانت تصل إلى مدينة دورا أوروبوس- الصالحية في أيامنا هذه، وتقع بالقرب من الميادين على نهر الفرات شرقي سوريا، وينقل عبر تدمر إلى البتراء في الأردن .

في القرن الثاني الميلادي، انتعشت التجارة لزيادة الملاحة في المحيط الهندي، بعدما تعلم البحارة الاستفادة الفعلية من الرياح التجارية التي كانت تهب دوماً من الشمال الشرقي والجنوب الشرقي نحو خط الاستواء؛ كذلك، في حوالي السنة المائة بعد الميلاد، كان طريق الحرير القادم من الصين والمار بأفغانستان قد أُغلق باحتلال جماعات الكوتشان، الواقعة إلى الشمال من مشهد في أيامنا هذه له، وتوّقف ذلك الطريق، وبذلك أصبح الطريق البحري عبر الخليج مهمّاً لنقل التجارة .

احتل الرومان سوريا والجزء الغربي من العراق، حتى امتداد نهر الفرات، في الفترة من العام 113م حتى العام 117م؛ وبنى الرومان طريقاً يربط المناطق المحتلة من العراق بتدمر ومنها إلى دمشق .

بعد أن دمّر الإمبراطور ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius مدينة المدائن، التي تبعد بمقدار خمسة وعشرين كيلومتراً من بغداد في أيامنا هذه، انتقل مركز التجارة فيما بين النهرين في العراق إلى الشرش القريبة من القرنة عند مصب نهري دجلة والفرات في شط العرب من الناحية الشمالية؛ فوصلت السفن القادمة من الخليج إلى هذا المركز التجاري، من خلال عبور شط العرب .

بعد أن توقفت التجارة عبر طريق الحرير، انتقلت الطريق إلى سهول السند، حيث عبرتها لتصل إلى بحر عُمان من عند مصب نهر السند، حيث وُجدت آثار لتدمر عند ذلك الميناء . وأصبح نقل التجارة بالطريق البحري من مصب نهر السند عبر الخليج، ومن ثم شط العرب، لتصل إلى الشرش بالقرب من القرنة في أعالي شط العرب؛ ومنها إلى تدمر . كان الطريق البحري من مصب نهر السند إلى شط العرب محفوفاً بالمخاطر، حيث تكون الضفة الشمالية للخليج من مدخله حتى شط العرب تابعة لفارس؛ وكان يستحيل،لما بين الفرس والرومان من حروب مستمرة، على السفن الناقلة للبضائع التجارية أن تزور أيّ ميناء على الضفة الشمالية للخليج لأجل التزوّد بالماء والحطب للوقود . ولبعد المسافة بين مصب نهر السند وشطّ العرب، التي تُقدّر بحوالي خمسة آلاف وستمائة كيلومتر، اختير موقع في منتصف تلك المسافة، يبعد عن الساحل الفارسي، بما يكفي لعدم وصول الفرس إليه؛ فتمّ اختيار رأس الخيمة، لتكون الموقع الأمثل لإقامة مركز تجاري تابع لتدمر، يتحصن على المرتفعات من الجبال، فلا يستطيع الأعداء الوصول إليه . . فكان ذلك الموقع هو موقع قصر الزباء أو قصر زنوبيا الذي بُني في الموقع لاحقاً عندما حكمت زنوبيا .

سؤال يتبادر للذهن: هل توقفت التجارة عبر طريق الحرير بعدما أُغلق من قِبل جماعات الكوتشان؟

الجواب: إن التوقف حدث من بلدة كوتشان وامتداد الطريق المتجهة إلى سوريا . أما ما قبل ذلك، وعند مدينة مرو في تركمانستان، التي تسبق الوصول إلى مدينة كوتشان، فقد وُجدت بها نقوش على الحجر منسوبة إلى أناس من تدمر؛ ذلك يفسر طريق التجارة القادم من كرمان إلى الخليج عبر ميناء غمبرون، الذي سُميّ بندر عباس في ما بعد .

وللاتصال المباشر بين كرمان والصين، تمت زراعة التوت لتغذية يرقات دودة القّز من الصين، الممنوع خروجها من الأراضي الصينية . فكيف إذاً وصلت تلك الشرنقات إلى كرمان؟

ذهب تجار من كرمان مع نساء لهم، وعند رجوعهم عقصت نساؤهم شعرهن في صورة ضفائر، ووضعن الشرنقات وسط الشعر؛ وبذلك استطاع التجار تربية يرقات القزّ لإنتاج الحرير .

تحوّلت كرمان إلى مركز لإنتاج الحرير، وقد اشتهر ذلك الحرير، مما كان له الأثر الأكبر في تواجد الاستعمار البريطاني في الخليج . . وذلك أمر يطول شرحه .

من قراءاتي في الوثائق الخاصة بالتاريخ الأغسطي والبيزنطي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- السيرة الذاتية لزنوبيا في التاريخ الأغسطي، حياة الأدعياء الثلاثين (كُتب سنة 320م) .

2- قصة زنوبيا، حسب رواية المؤرخ البيزنطي زوسيموس Zosimos التاريخ، مخطوطة الفاتيكان، صفحات رقم 121-131 (وقد عاش زوسيموس في حوالي عام 500 بعد الميلاد، ترجمة من اللغة الإغريقية

3- تاريخ المؤرخ البيزنطي زوناراس Zonaras، الكتاب ،12 (القرن الثاني عشر، تمت الترجمة من اللغة الإغريقية)، كلها كتبت قصة زنوبيا ملكة تدمر .

وتفاجأت، عندما قرأت ما كتبت العرب عن ملكة تدمر، ودعوها بالزباء وهو اسم تطلقه العرب على النساء ذوات الشعر الطويل الكثير؛ فقالوا هي الزباء بنت عمرو بن الظرب، أو إنها الزباء بنت الريّان الغساني، ملك الحضر جنوب الموصل . .

والرواية التالية ربما هي التي أحدثت التشابه بأن الزباء هي ملكة تدمر، تقول الرواية:

* لأمر ما جدع قصير أنفهُ؛ مثل يُقال في من استعمل حيلة لنيل مرامه .

قالته الزباء لما رأت قصيراً مجدوعاً . وكان أبوها الريان الغساني ملكاً على الحضر، فقتله جذيمة الأبرش، وطرد الزباء إلى الشام؛ فلحقت بالروم، وبلغت من همتها أنها جمعت الرجال، وبذلت الأموال، وعادت إلى دار أبيها ومملكته، فأزالت جذيمة عنها وقتلته .

وكان لجذيمة وزير اسمه القَصيِر، فاحتال في قتل الزباء؛ فجدع أنفه، وضرب جسده، ورحل إليها زاعماً أن عمرو ابن أخت جذيمة صنع بهِ ذلك، وأنه لجأ إليها هارباً منه، واستجار بها .

ولم يزل يتلطف لها بطريق التجارة وكسب الأموال إلى أن وثقت به، وعلم خفايا قصرها، ثمّ وضع رجالاً من قوم عمرو في غراير (أي جواليق)، وعليهم سلاح، وحملهم على الإبل، على أنها قافلة متجر، إلى أن دخل بهم مدينتها؛ فحلّوا الغرائر، وأحاطوا بقصرها، فعلمت حيلته، وقالت المثل . .

لكن الحقيقة تكمن في التاريخ الأغسطي عن حياة الأدعياء الثلاثين، الذي كُتب سنة 320م، أي بعد إحضار زنوبيا إلى روما بست وأربعين سنة فقط؛ فقد أُحضرت إلى روما سنة 274م؛ وقد ذُكر في تلك الوثيقة:

تنتسب زنوبيا إلى عائلة كليوباترا وبطليموس أحد ملوك مصر . .

وقول آخر يقول إنها تنتسب إلى عائلة كليوباترا، والعائلة المالكة في قرطاجة من سلالة ديدون (1)

(1)

زنوبيا ملكة تدمر

في عام مائة وتسعة وعشرين، قام الإمبراطور الروماني هدريانوس Hadrianus بزيارة تدمر، ومنحها المدينة الأولى بامتياز .

وفي حوالي السنة مائتين من الميلاد أصبحت تدمر علامة رئيسية على طرق التوابل والحرير .

وخلال مدة اثنتي عشرة سنة تطورت تدمر حتى أصبحت مدينة رومانية تتمتع بجميع الحقوق .

في العام الثامن والخمسين بعد المائتين من الميلاد، عُيّن أذينة، الذي كان رئيساً للأعيان في تدمر، حاكماً على سوريا من قِبل الإمبراطور فاليريانوس Valerianus .

في العام الثاني والستين بعد المائتين من الميلاد، شن أذينة هجوماً شجاعاً على شابور ملك فارس، وتمكّن من الاستيلاء على مدينة المدائن، كما تمكّن أيضاً من الاستيلاء على نصيبين على الحدود السورية الشمالية، التي سبق لشابور الاستيلاء عليها وإخضاعها . ولم يكتف أُذينة بالاستيلاء عليها، بل عمل على تدميرها في الوقت نفسه .

عندما علم الإمبراطور الروماني غالينوس Gallienus بانتصار أذينة على شابور، منحه لقب الدوق، مثل الرومانيين، وعيّنه نائباً للامبراطور على المشرق كله؛ فكانت له إمارة مستقلة فعلياً .

تزوّج أذينة من زنوبيا، التي كانت تفتخر بانتسابها إلى عائلة كليوباترا وبطليموس أحد حكام مصر .

لم تكن لتعرف زوجها إلاّ لغرض الحمل؛ فإن ضاجعته مرة لا تضاجعه أخرى حتى يجيء وقت الحيض لتتبيّن ما إذا كانت حاملاً، فإن لم تكن حاملاً منحته مرة أخرى الفرصة لإنجاب أولاد؛ فأنجبت ابنه البكر الذي سُميّ وهب اللات .

عندما احتل الفرس مدينة المدائن على نهر دجلة، قام أذينة بالزحف على تلك المدينة، بعد أن ترك زنوبيا تنوب عنه في تدمر . وعاد بعد أن احتل مدينة المدائن، وأعادها إلى ملك تدمر .

فيما بين السنتين السابعة والستين بعد المائتين من الميلاد، والثامنة والستين بعد المائتين من الميلاد، كانت هناك انتفاضة كبيرة في الامبراطورية الرومانية على الأناضول (تركيا حالياً) واحتلتها قبائل القوط الألمانية؛ فزحف أذينة وابنه حران بجيش قويّ لطرد قبائل القوط الألمانية، بعد أن أناب زنوبيا في حكم تدمر . لكن أذينة وابنه حران قُتلا على يد قريب لهما، فقيل إن زنوبيا وراء ذلك القتل، لأنها كانت تريد أن يؤول ملك تدمر لابنها وهب اللات .

أصبحت زنوبيا وصية على ابنها القاصر وهب اللات، حيث عيّنته ملكاً على تدمر . كانت هناك عدة حركات انفصالية ضد الإمبراطور غالينوس Gallienus وقد اغتيل غالينوس في عام 268م . كانت قيادة الجيش الروماني مقيمة معسكراً خارج ميلانو Milan فانتخبت كلوديوس غوتيكوس Claudius Gothicus، قائد سلاح الفرسان الروماني، إمبراطوراً . وبين عام 268م وعام 270م كانت فترة حكمه القصيرة، فقد هُزم في معركة غزوه للقبائل الألمانية .

استغلت زنوبيا تلك الفرصة من انشغال الرومان في حروب الألمان فاحتلت مصر في سنة 269م، وفي صيف سنة 270م، احتلت الجزيرة العربية .إذاً لابد أن يكون قصر زنوبيا في رأس الخيمة قد بُني في تلك الفترة .

تدهورت العلاقة بين مملكة تدمر المنفصلة والامبراطور كلوديوس، توفي كلوديوس بالجدري، فقد عيّن أوريليان إمبراطوراً خلفاً له؛ فاغتصبت زنوبيا السلطة في تدمر بأن ضربت النقود باسم وصورة ابنها وهب اللات، وقد أطلقت عليه اسم أوغسطس Augustus الامبراطور .

وفي سنة 271م ضربت النقود باسمها وصورتها وأسمت نفسها أوغسطا Augusta الامبراطورة .

عاشت زنوبيا في أبهة ملكية، فقد عُبدت كعادة الفرس، وأقامت المآدب كعادة ملوك الفرس، ولكنها ظهرت لجموع العامة كعادة الامبراطور الروماني مرتدية خوذة وطوقاً مزوداً بعصابة رأس بنفسجية تتدلى الجواهر من طرفها السفلى، بينما تشبكها من الوسط جوهرة تسمى كوكليس مستخدمة كبديل للبروش الذي ترتديه النساء، وكثيراً ما كانت ذراعاها عاريتين، كان وجهها داكناً عليه مسحة كدر، وكانت عيناها سوداوين قويتين أكثر من المعتاد، وروحها قدسية عظيمة وجمالها لا يصدق، كما أن أسنانها كانت شديدة البياض، لدرجة أن البعض اعتقد أن ما لديها لآلئ لا أسنان، وكان صوتها واضحاً كصوت الرجل، وقسوتها عند اللزوم كقسوة الطاغية، ورأفتها عندما يستدعيها إحساسها بالصواب رأفة إمبراطور صالح، عاقلة في كرمها، فلقد حافظت على كنوزها أكثر مما اعتيد من النساء، ولقد استفادت من العربة ونادراً من مجلس النساء، ولكنها كانت في أغلب الأوقات تمتطي الحصان . ولقد قيل أيضا إنها لطالما سارت مع جنود المشاة لثلاثة أو أربعة أميال . وكان لها همة الرجال وكثيراً ما شربت الخمر مع جنرالاتها على الرغم من إحجامها عن ذلك في أوقات أخرى؛ كما شربت أيضا مع الفرس والأرمن، ولكن بغرض فقط إخراج أفضل ما فيهم، ولقد استخدمت في مآدبها أواني ذهبية مرصعة بالجواهر حتى إنها استخدمت أواني كليوباترا . وكان خدمها من كبار السن المخصيين والقليل القليل من العذراوات، ولقد أمرت ولديها بالتكلم باللاتينية، ولكنهما في الواقع تحدثا الإغريقية، ولكن في أوقات نادرة وبصعوبة . ولم تكن هي شخصياً متعمقة في اللسان اللاتيني، ولكنها بالرغم من ذلك قد تتحدث به لتحكمها في خجلها . أما من ناحية أخرى فلقد تحدثت باللهجة المصرية بشكل جيد جدا، ولقد جاء في تاريخ الإسكندرية والشرق أنها كانت ضليعة جداً فيه، لدرجة أنها ألفت ملخصاً فيه، ويقال إنها مع ذلك قرأت التاريخ الروماني بالإغريقية .

لم يقبل أوريليان بذاك التصرف، فقام بقيادة الجيش بنفسه، وتوجه إلى تدمر لإخضاعها، بينما القائد الروماني بروبس Probus يقوم باخضاع مصر وإعادتها للامبراطورية الرومانية .

(2)

تحطيم مملكة تدمر

أمر الامبراطور أوريليان بتوجه المسيرة نحو تدمر حتى يقتحمها، لعله يضع حداً لمتاعبه، ولكن كثيراً ما لاقى وقوبل جيشه أثناء مسيرته بالعداء من قطاع الطرق السوريين .

ولما وصل إلى تدمر قام بحصارها، وقد عانى من العديد من الحوادث، كما تعرض لخطر عظيم خلال الحصار لإصابته بسهم .

وبينما أورليان يقوم بحصار تدمر كتب خطاباً وأرسله إلى موكابور (2) Mucapor، أحد قادته، الذي اعترف فيه، من دون التحفظ الإمبراطوري المعهود، بصعوبة تلك الحرب، قائلاً:

يقول الرومان إنني ما أنا إلا امرؤ يشن حرباً على امرأة، وكأن من يقاتلني هي زنوبيا وحدها، وبقواتها الخاصة فقط، إلا أن في حقيقة الأمر قوة العدو عظيمة، كأنني مضطر لشن حرب على رجل، بينما جعل منها خوفها وإحساسها بالذنب خصماً أكثر لؤماً، ولا يمكنني أن أخبرك عن مدى حجم سهامها ومدى عظمة استعدادها للحرب، وكم لديها من ذخيرة رماح وأحجار، فلا يوجد قسم من السور يخلو من محركين أو ثلاثة من محركات الحرب،كما أن آلاتها يمكنها قذف النيران .

فماذا يقال بعد هذا؟ فهي تخاف كامرأة، وتقاتل كشخص يخشى العقاب . ولكنني أؤمن بأن الآلهة سوف تأتي بالعون إلى الحلف الروماني، فهم لم يدعوا مساعينا تذهب سدى قط .

بعد أن طال الحصار،قام أوريليان بإرسال خطاب إلى زنوبيا يطلب منها الاستسلام، ويعدها بالإبقاء على حياتها .

وفي ما يلي ذلك الخطاب:

من أوريليان، امبراطور العالم الروماني ومسترد الشرق، إلى زنوبيا والآخرين ممن يدينون لها بالتحالف في الحرب، كان ينبغي عليك أن تفعلي بحُر إرادتك ما آمرك به الآن في خطابي . إنني آمركم بالاستسلام، وأعد بأن أبقي على حياتكم بشرط أن تقيمي أنت، يا زنوبيا، وأولادك في أي مكان أحدده أنا بالتوافق مع ما يرغبه مجلس الشيوخ المكرم .

ويجب عليك تسليم جواهرك وذهبك وفضتك وحرائرك وأحصنتك وجمالك إلى الخزانة الرومانية .

أما بخصوص شعب تدمر فسوف تصان حقوقهم .

وبتلقي زنوبيا لهذا الخطاب، قامت بالرد عليه بكبرياء وتعال يفوق ولا يتناسب مع ثرواتها، بهدف إخافته؛ وقد كتبت خطابها قائلة:

من زنوبيا، ملكة الشرق، إلى أوريليان أونجاستس،

لم يطلب شخص غيرك في خطاب ما طلبته، ولا يجب إنجاز أي ما كان من أمور الحرب إلا بالبسالة وحدها .

لقد طالبت باستسلامي، وكأنك لا تعلم أن كليوباترا فضلت أن تموت ملكة، على أن تبقى حية، أياً كان علو منزلتها، ولن نفتقر إلى تعزيزات فارس التي ننتظرها الآن، وإلى جانبنا تقف القبائل العربية وكذلك أيضا الأرمن .

لقد هزم قطاع طرق سوريا جيشك يا أوريليان، فماذا يجب القول بعد ذلك؟

فإن وصلت هذه القوات التي نتوقع تدفقها من كل جانب، لنحيت أنت بدون شك جانباً هذا التكبر الذي تأمرني به الآن أن أستسلم، وكأنك منتصر من جميع النواحي .

يقول نيكوماتشوس Nicomachus الفيلسوف والمدرس، إن زنوبيا أملت بنفسها هذا الخطاب، وقام هو بترجمته إلى اليونانية من اللهجة السورية، حيث إن خطاب أوريليان السابق كان مكتوباً باليونانية .

لم يشعر أوريليان بالخزي لتلقيه ذلك الخطاب، وإنما استشاط غضباً، وقام على الفور بتجميع جنوده وقادته من كل جانب، وشدَد الحصار على تدمر . . وأولى ذلك الرجل الشجاع انتباهه إلى كل شيء يبدو غير مكتمل أو مهمل . ثم قام بقطع التعزيزات التي قام الفرس بإرسالها والتلاعب بسرية خيالة القبائل العربية والأرمن لجلبهم إلى جانبه، البعض عن طريق الوسائل الجبرية، والبعض الآخر بالمكر .

وأخيراً قهر بعناء جبار تلك المرأة القوية، فلاذت زنوبيا المقهورة بالفرار على الجمال العربية، ولكن بينما هي تسعى للوصول إلى الفرس، ألقى الخيالة ممن أرسلوا في أعقابها القبض عليها، وهكذا تم إحضارها تحت سلطة أوريليان .

وهكذا تعامل أوريليان المنتصر والمستولي على الشرق بأكمله، الذي ازداد كبره وغطرسته الآن بإلقائه القبض على زنوبيا مع الفرس والأرمن وعرب القبائل، بما تقتضيه المناسبة .

عندما أَحضرت زنوبيا جعلها أوريليان تساق في حضوره ثم توجه إليها هكذا قائلا:

لماذا يا زنوبيا تجرأت على التغطرس على أباطرة الرومان؟ ويقال إنها ردت على ذلك ب:

أنا أعلم أنك امبراطور حقيقي فلقد حققت انتصارات، أما جالينوس وأوريلوس والآخرون فلم أعتبرهم أباطرة قط، ولإيماني بأن فيكتوريا امرأة مثلي، فلقد رغبت في أن أصبح شريكة في السلطة الملكية إن توفرت الأراضي .

عندها شب الاضطراب بين جميع الجنود الذين طالبوا بمعاقبة زنوبيا، ولكن أوريليان اعتقد أن من غير اللائق أن تعاقب امرأة بالإعدام، وقام بقتل العديد ممن نصحوها بالشروع والاستعداد وشن الحرب واحتفظ بالمرأة لاحتفاله بالانتصار، راغباً في أن يعرضها أمام أعين الشعب الروماني .

أما الفيلسوف نيكوماتشوش فقد قام أوريليان بذبحه لأنه علم بأن خطابها المفرط الكبر تم اكتتابه وفقا لمشورته، على الرغم من أنه كان مصاغاً في واقع الأمر باللهجة السورية .

إنه لمن النادر، بل وبالأحرى من الشيء الصعب على السوريين أن يبقوا على إيمانهم، فالتدمريون الذين أصابتهم الهزيمة من قبل وتحطموا،بدأوا تمرداً ذا حجم لا يستهان به، لانشغال أوريليان في ذلك الوقت بأمور في أوروبا، وقاموا بقتل سانداريو Sandario الذي عهد إليه أوريليان بقيادة الحامية العسكرية في تدمر، ومعه ستمائة من رماة السهام، وبذلك حصلوا على الحكم خصيصاً لأخيليوس Achilleusأحد أقارب زنوبيا .

ولكن أوريليان كان بالفعل مستعداً كما كان دائماً، فعاد من أوروبا وقام بتدمير مدينة تدمر، لأنها كانت تستحق ذلك .

ولقد ذاع الكثير عن قسوة أوريليان، أو كما يقول البعض عن شدته لدرجة استشهادهم بخطاب له يكشف عن اعتراف من أشد الاعترافات غضباً وتوحشاً، وفي مايلي الخطاب الذي أرسله لأحد قادته:

من أوريليان أوجوستس إلى سيرونياس باسوس Cerronius Bassus، لا يجب أن تواصل سيوف الجنود عملها لأكثر من ذلك، فلقد قتل وذبح بالفعل ما يكفي من التدمريين، ولم نبق على النساء وذبحنا الأطفال وجزرنا الشيوخ ودمرنا الفلاحين . فلمن يجب علينا أن نترك الأرض أو المدينة في هذه الحالة؟

يجب الصفح عن هؤلاء الباقين على قيد الحياة، وذلك لاعتقادنا أن عقاب الكثرة قد أدب القلة .

هوامش

1- ديدون أو أليسار أخت بيجماليون ملك صور . نحو 825 قبل الميلاد أصبحت قرطاجة امبراطورية قوية نازعت روما في الحروب القومية بين روما وقرطاجنة وانتصرت روما .

2- في عام 275م قام موكابور مع مجموعة من الضباط وقتلوا الامبراطور أوريليان فأعدموا جميعاً .

حفل انتصار يكتب نهاية زنوبيا

وهكذا توّجه أوريليان، الذي أصبح حاكماً على جميع أنحاء العالم، بإخضاعه المشرق وبلاد الغال، وبانتصاره في جميع الأراضي، بمسيرته نحو روما، حتى يعرض نصره على زنوبيا وتيتريكوس Tetricus ملك الغال الذي هزمه وأسره، وانتصاره على الشرق والغرب أمام أعين الرومان .

ليس من العبث أن نعلم على أي شكل كان حفل الانتصار الذي أقامه أوريليان، في بداية عام 274م؛ فلقد كان مشهداً شديد الإبهار:

كانت هناك ثلاث مركبات خفيفة ملكية؛ صُنعت الأولى بعناية وزُيّنت بالفضة والذهب والجواهر، التي كانت ملكاً لأذينة .

والثانية صُنعت بعناية مماثلة ومنحها ملك الفرس لأوريليان، والثالثة صنعتها زنوبيا لنفسها، آملة أن تزور بها مدينة روما .

ولقد تحقق هذا الأمل، فلقد دخلت بالفعل المدينة فيها، ولكن مهزومة ومزفوفة في حفل انتصار .

وكان هناك أيضاً مركبة أخرى رابعة تجرها أربعة مهور، وقيل إنها كانت في يوم من الأيام ملكاً لملك القوطيين، وهي المركبة التي استخدمها أوريليان .

وهناك تقدم أيضاً عشرون فيلاً ومائتا وحش مدرّب من جميع الأنواع من ليبيا وفلسطين .

وأعلن أوريليان على الفور للمواطنين، أنه لا يجب أن تُثقل مخصصات الملك بتكلفة إطعامها .

هذا إضافة إلى سير أربعة من النمور في نظام، والزراف والظباء وغيرها من الحيوانات المماثلة، وكذلك ثمانمائة زوج من المصارعين، إلى جانب الأسرى من القبائل البربرية .

وكان هناك البليميون (وهم الذين كانوا يعيشون بين طرابلس الغرب وتشاد) والأكسومينيون (الأثيوبيون) والعرب من اليمن والهنود والباكتريانيون (من أواسط آسيا) والايرلنديون والقبائل العربية والفرس، وجميعهم يحملون هداياهم .

كما كان هناك أيضاً من أُسر من القوات التي كانت تحارب مع الألمان من القوطيين والألانيين والروكسولانيين والسارماتيين والفرنجة والسوبيين والفانداليين والألمان الذين كُبلت أيديهم بالأغلال .

وكان من ضمن المتقدمين أيضاً رجال معينون من تدمر، ممن نجوا من سقوطها، ومن كبار مسؤولي الدولة، ومن المصريين أيضاً بسبب تمردهم .

كما سيقت أيضاً عشر من النساء اللاتي كن يقاتلن في بزات رجال، واللاتي أُسرن ضمن القوطيين بعد سقوط العديد من الأخريات، واللاتي أعلنّ أنهن ينتمين إلى الجنس الأمازوني (هن محاربات من إقليم الأمازون في شمال البحر الأسود) . . ولقد تمّ هذا الإعلان على الملأ، يكشفون فيه عن أسماء دولهن .

ولقد كان تيتريكوس سائراً ضمن الموكب أيضاً، مرتدياً عباءة قرمزية، ودرعاً صفراء، وبنطالاً باهظ الثمن، وبصحبته ابنه الذي أعلنه امبراطوراً على منطقة الغال (المناطق الممتدة بين الرين والألب والمتوسط والبيرينه والأطلسي) .

وها هي زنوبيا تأتي أيضاً مزيّنة بالجواهر والسلاسل الذهبية التي حملها عنها الآخرون لثقلها .

وتمّ حمل التيجان الذهبية التي تقدمها جميع المدن عالياً، والتي تمّ إشهارها بإعلان رُفع عالياً .

ثم جاء الشعب الروماني نفسه، وأعلام الطوائف والمعسكرات، والفرسان المدرعون، وثروات الملوك، والجيش بأكمله، وأخيراً مجلس الشيوخ الذي كان حزيناً إلى حدٍ ما لرؤيتهم للمشايخ الآخرين يُزفون في موكب الانتصار، وكل هذا أضاف الكثير إلى روعة الموكب .

ثم وصلوا بشق الأنفس إلى هيكل جوبيتر كبير آلهة الرومان، في الساعة التاسعة من النهار .

وعندما وصلوا إلى القصر، كان الوقت بالفعل متأخراً، ولقد تمّ الترفيه عن العامة في الأيام التالية، بإقامة المسرحيات في المسارح، والسباقات في السيرك، ورحلات صيد الوحوش البرية، وقتالات المصارعين، وكذلك المعارك البحرية .

بعد حفل الانتصار، سلم أوريليان زنوبيا إلى القضاء في روما، وقدّم خطاباً يحمل شهادة تخص هذه المرأة التي أُلقي بها بعد ذلك إلى السجن . فلقد قام بإرسال خطاب إلى مجلس الشيوخ والشعب الروماني يدافع فيه عن نفسه، عندما عاب عليه البعض أن يقوم، وهو أشجع الرجال، بزف امرأة في حفل انتصار وكأنها جنرال؛ وبرر ذلك بالآتي:

يا مشايخ المجلس، لقد ترامى إلى مسامعي أن الرجال يلومونني على عملي الخالي من النخوة في زف زنوبيا في حفل انتصار، ولكن في حقيقة الأمر، فإن نفس هؤلاء الذين يعيبون عليّ الآن، سوف يغمرونني بالثناء لو أنهم عرفوا فقط أي النساء هي، وكم نصائحها حكيمة وخططها صارمة، وكم هي حازمة مع الجنود وشرسة عندما يستدعي الأمر، وصارمة عند لزوم الضبط والربط؛ بل وإنني لأضيف أنها هي السبب وراء انتصار أذينة على الفرس؛ فبعد أن تسببت في هرب شابور، تقدمت حتى مدينة المدائن .

وعلاوة على ذلك، فلقد خشينا من هذه المرأة التي كانت قد ألهمت شعوب الشرق والمصريين إلى الحد الذي لم يجعل العرب في اليمن والقبائل العربية والأرمن يعارضونها قط .

وما كنت لأبقي على حياتها، لولا أنني علمت بالخدمة الجليلة التي قدمتها للدولة الرومانية، عندما احتفظت بالسلطة الملكية في الشرق لنفسها أو لطفليها .

ولذلك، دع هؤلاء الذين لا يرضيهم أي شيء، يضعوا ألسنتهم الحادة في أفواههم؛ فإن كان الانتصار على امرأة وزفّها في حفل انتصار لا يلقى قبولهم، فما قولهم في غالينيوس الذي احتقرته، وأحسنت حكم الامبراطورية في عهده؟ أو كاليديوس العظيم، هذا القائد المكرّم الموقّر الذي ألقى عليها عبء السلطة الملكية، أو هكذا قيل، لانشغاله بمعاركه مع القوطيين، لتتقلدها بتبصر وحكمة، حتى يستطيع هو نفسه أن يكمل ما في يده بشكل أكثر أماناً، بينما تحرس هي الحدود الشرقية للامبراطورية؟!

آراء حول مصير زنوبيا

كانت هناك آراء كثيرة حول مصير زنوبيا . . يقول زوناراس، المؤرخ البيزنطي، في الكتاب الثاني عشر، الذي كتبه في القرن الثاني عشر عن نهاية زنوبيا: هناك من يقول إنه قد جيء بها إلى روما، وتزوجت من واحد من أبرز رجالها .

بينما يقول آخرون إنها توفيت في الطريق بسبب حزنها على تغيّر أوضاعها، على الرغم من أن أوريليان اتخذ إحدى بناتها زوجة له، بينما تزوجت بقية بناتها من أشهر الرجال الرومان .

وهكذا فقدت تدمر تجارتها كاملة بعد تلك الحرب، وأصبحت الأمور أسوأ بعد مناوشات على الحدود مع فارس؛ فكانت التجارة القادمة من طريق الحرير تصل إلى الدولة البيزنطية عن طريق أرمينيا والأناضول .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"