عادي
الرسم يؤسـس لهندسة القصيـدة

العين تخاطب الأذن في الشعر العربي الحديث

03:21 صباحا
قراءة 5 دقائق

الشارقة: «الخليج»
ضمن فعاليات مهرجان الشارقة للشعر العربي، احتضن بيت الشعر في مقرّه بالشارقة صباح أمس أعمال الجلسة النقدية الأولى التي حملت عنوان «تراسل الشعر العربي مع الفنون»، شارك فيها د.محمد الصفراني من السعودية، ود. رشا العلي من سوريا، ود. محمد القاضي من تونس، ود. حسين حمودة من مصر، ود. محمد الديباجي من المغرب.
ناقشت الندوة عدة محاور هي: تقنيات الفنون الأدبية وغير الأدبية في تطوير مستويات بناء القصيدة العربية، وانفتاح الشعر على الفنون البصرية، وتطور الغرض الشعري في العصر الحديث، والنسيج الشعري والفنون الأخرى التلقي والتقويم، وآليات التراسل بين النسيج الشعري والفنون الأخرى، ودراسات تطبيقية في تواصل الشعر والفنون الأخرى.
استعرض الدكتور محمد الصفراوي في ورقته نصوصاً غلب عليها طابع التجريب الذي يحتل فيه فنا الرسم والتصوير حيزاً كبيراً. ورأى أن أهمية الموضوع تتجلى في جدية التناول والنصوص الشعرية محل الدراسة التي تعطي تصوراً جيداً لتعاملات الشعر العربي الحديث مع فني الرسم والتصوير بمختلف أنماطهما محاولاً إيجاد منظومة مفاهيم نقدية تصف وتحلل مظاهر تراسل الشعر مع الفنون من خلال رصد تقاطعاتها وتحليل أنماط تشكلها في الشعر العربي الحديث، ساعية إلى تعميق الوعي بهذا التراسل بوصفه مجموعة أدوات فنية لها أثرها الجمالي في بنية النص الشعري الحديث. وتهدف إلى تحليل بعض نماذج من معالم تراسل الشعر مع فني الرسم والتصوير ومعرفة وسائله وأنماطه ودوافعه في الشعر العربي الحديث. ودراسة أثره في إنتاج الدلالة الشعرية.
وجاءت الدراسة على ثلاثة محاور رئيسة هي: محور الرسم بالشعر، ومحور دخول الشعر على الرسم من خلال مفاهيم محددة تتمثل في التناظر، والتفاعل بالقص والقلب، والتعالق بالتناسل والتوظيف، ومحور دخول الرسم على الشعر من خلال مفاهيم محددة تتمثل في التزيين، والتجسيد، والرمز، والاستقطاع.
ورأى في تراسل الشعر العربي الحديث مع فني الرسم والتصوير، جملة من النتائج هي: أن تراسل الشعر مع فني الرسم والتصوير يندرج تحت مصطلح التشكيل البصري الذي يعني كل ما يمنحه النص للرؤية سواء أكانت الرؤية على مستوى العين المجردة أم عين الخيال، فهو يندرج تحت الشق الأول من المفهوم المتعلق بالرؤية على مستوى العين المجردة، ووصلنا إلى أن التراسل قد تم في الشعر العربي منذ القدم، إذ وجد له (إشارات) في تراث الشعر العربي في العصر المملوكي والعثماني، لكنها لم تثمر بسبب قيود البنية العروضية للشعر العربي التقليدي، وقد كان كسر عمود الشعر العربي التقليدي سبباً رئيساً في ظهور تراسل فني الرسم والتصوير مع الشعر العربي الحديث، كما توصّل إلى أن التراسل بين الشعر وفني الرسم والتصوير تم على مستويات ثلاثة، تتمثل في مستوى الرسم بالشعر بوصف الشعر مادة للتشكيل مثلها مثل الأصباغ، ومستوى دخول الشعر على الرسم من خلال مفاهيم محددة تتمثل في التناظر، والتفاعل بالقص والقلب، والتعالق بالتناسل والتوظيف، ومستوى دخول الرسم على الشعر من خلال مفاهيم محددة تتمثل في التزيين، والتجسيد، والرمز، والاستقطاع. وهذه المستويات تؤكد أن الكتابة الشعرية لم تعد تتمركز حول اللغة وحدها أو المعنى المحدد مسبقاً. فالشعر العربي الحديث بهذا التراسل أصبح خطاباً للعين والأذن.
وقدّمت د.رشا العلي قراءة في نماذج من الشعر العربي المعاصر للكشف عن مدى إفادته من الفنون الأخرى السردية والبصرية في بناء دلالات جديدة وخلق هندسة جديدة للقصيدة ومن ثم تعديل طريقة تلقيها. انطلاقاً من مبررات عامة وخاصة فمن يقرأ الشعر الحديث يدرك أنه لم يعد يعتمد على اللغة فقط في إنتاج شعريته، ذلك أن تضخم الشعرية الحديثة واتساعها لم يعد يكتفي بهذه الأداة، ومن ثم اتجهت إلى أدوات إضافية استعارها من فنون سردية: كالقصة والمسرحية والرواية، وأخرى بصرية مثل الرسم والتصوير والسينما.
وأكدت العلي استفادة الشاعر المعاصر من الإمكانيات التشكيلية والجمالية للفنون الأخرى، رافعاً بذلك جميع الفواصل التي تفصل بينهما والتفاعل معها وتوظيف كل ما هو متاح من عناصرها الفنية وما هو مناسب من تقنياتها لتصعيد مستوى شعرية القصيدة بما ينسجم أولاً مع الطبيعة الشعرية للقصيدة، وبما يعزز موقع الحداثة فيها مما خلصها من أسر الغنائية المباشرة.
ورأى الدكتور محمد القاضي أن فكرة تراسل الفنون جديدة نسبياً في الوعي النقدي، إذ هي تعود إلى عصر الرومانسية التي ازدهرت في أوروبا في النصف الأول من القرن الثامن عشر بوصفها تداعياً من تداعيات الثورة الفرنسية وكثيراً ما يرجع الباحثون هذه الفكرة إلى الفيلسوف سوربو الذي نشر سنة 1947 كتاباً بعنوان«تراسل الفنون..مبادئ لجمالية مقارنة»، وقال«إن البحث في الأواصر بين الأدب والفنون لم يلبث أن انفتح على آفاق جديدة، وتحول من مجرد الوقوف على وجوه التماثل بينها، إلى رصد وجوه التفاعل وكان من شأن هذا البحث في المدونة النقدية القديمة أن أخذ الباحثين إلى النصوص المؤسسة للنظرية الأدبية، ومن أولها «فن الشعر» لأرسطو.
و توقف د. حسين حمودة في بحثه عند كيفيات تراسل الشعر العربي الحديث وبعض الفنون، مثل المسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقى، وعند طرائق توظيفه لـ «لغات» هذه الفنون داخل لغة الشعر، خلال تمثيلات شعرية عربية متنوعة، تسمح بتأمل الأبعاد المتنوعة لهذا التراسل وقال «إن تاريخ التراسل بين الشعر العربي، وغير العربي، من جهة، والفنون المتنوعة، من جهة ثانية، تاريخ قديم ومتجدّد. شهد الشعر، وشهدت الكتابات عنه، خلال فترات متعددة، تجارب إبداعية واجتهادات نقدية جسّدت نزوعاً متّصلاً إلى استعادة «الوحدة الأولى» للحواس البشرية، التي توازي «وحدة الكون» كله. وفي الوحدتين لم يكن هناك انفصال بين العالم المادي والعالم الروحي، ولم تكن هناك مسافة قائمة بين المرئي وغير المرئي، أو المسموع وغير المسموع، أو بين المشموم وغير المشموم، أو بين الملموس وغير الملموس، ولا بين ما يدرك بالسمع وما يدرك بالبصر وما يدرك بالكلام».

تراسل الحواس

قدّم الدكتور محمد الديباجي في ورقته أمثلة من «تراسل الحواس» تدُلّ دِلالة واضحة على أن الشاعر العربي «كان يُحسّ بكلِّيته، وكان يريد أن يعبّر عمّا يحس به بكُلّ جوارحه. إذ كان حريصاً كل الحرص على أن يُبَلِّغَ شعورَه إلى كل من يتلقّاه عنه، فكُلّما استطاع الشاعر أن يؤثّر في مخاطبيه، ويقاسمهم آمالهم وآلامهم، كان كما قال القدماء من «الفحول»، وأخرى تدل عليها ظاهرة» تراسل الحواس»في شعرنا العربي، وهي ثراء هذه اللغة، وجمالها، وتَفَرّدهَا بأساليب من التعبير لا توجد في غيرها، ولا أَدَلَّ على ذلك من أننا لو ترجمنا بعضَ الأبيات التي استبدل فيها الشاعر حاسة بأخرى، كأن يسمع بعينه، أو يبصر بأذنه، لفقدَ هذا الشعر رونقه. وقد يبدو ركيكاً سخيفاً. وقد يتعجّب الأجنبي كيف أن هذا الشّعر يؤثر فينا ويهزّ كياننا؟. ومرجع ذلك إلى أن هذه اللغة التي ترجمنا إليها شعرنا العربي تفتقر إلى الفصاحة والبيان اللذين تتميز بهما اللغة العربية: لغة القرآن الكريم، ولغة الإعجاز».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"