وبهذه الوسائل وغيرها من العبادات والطاعات يعيش المسلم هادئاً راضياً قانعاً صابراً متطلعاً لمستقبل أفضل، بعد أن يتخلص من كل مشكلاته وأزماته.
فكيف يتحلى المسلم الذي يعاني الضيق النفسي نتيجة مشكلاته وأزماته بتعاليم وآداب دينه؟ وكيف يحمي دينه وعقله من جريمة الانتحار التي يرتكبها بعض اليائسين نتيجة ابتعادهم عن هداية السماء؟ وما العقاب الشرعي الذي ينتظر من يتورطون في هذه الجريمة؟
هذه التساؤلات وغيرها مما يتعلق بكيفية التغلب على الهموم والأحزان، عرضناها على اثنين من علماء الإسلام، في محاولة لتلمس ما يعين المسلم على مواجهة ما يعانيه من ضيق وأزمات نفسية قد تدفعه إلى قتل نفسه ليخرج من ضيق في الدنيا إلى ضيق أشد في الآخرة.
الداعية الأزهري الشيخ خالد الجندي يؤكد أن في القرآن الكريم وفي توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخلص المسلم من كل مشاعر الضيق الذي يعانيه نتيجة مشكلاته وأزماته في الحياة، ويقول: أطالب كل مسلم يعاني الضيق والضجر أن يقرأ بعض آيات القرآن بتدبر، أو أن يقوم ليتوضأ ويصلي، أو يبحث في المصحف أو النت عن معنى قول الله سبحانه في سورة الحديد: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور».
فالمسلم، وفق هذا النص القرآني، عليه أن يعلم أن ما أصابه من مصيبة، في نفسه أو عياله أو ماله هي مكتوبة ومقدرة ومسجلة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهذا التسجيل كائن من قبل أن يُخلق الإنسان، والتسليم بذلك هو ما يطلق عليه «الإيمان بالقضاء والقدر»، وهو جزء من عقيدة المسلم، يجب ألا يفارقه في كل أحواله، ومن كان راضياً قانعاً بما قدره الله له، خلّصه الله من كل مشكلاته وأزماته.. وواجب كل مسلم أن يردد عندما تلحق به مصيبة من المصائب قول الله عز وجل: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون».
صبور.. وشكور
هذا الموقف الإيماني الذي يصاحب المسلم في الظروف الصعبة التي تمر به، هو ما علله القرآن في قول الله سبحانه: «لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ».
أي: ما دام الله قد قدر لكم كل ما يلمّ بكم من أمور تفرحكم أو تحزنكم، فلا تحزنوا على ما أصابكم من مصائب حزناً يؤدي بكم إلى الجزع، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره، وأيضاً لا تفرحوا بما أعطاكم الله تعالى من نِعم عظمى وكثيرة فرحاً يؤدي بكم إلى الطغيان، وإلى عدم استعمال نِعم الله تعالى فيما خلقت له، فإن من عَلِمَ ذلك علماً مصحوباً بالتدبر والاتعاظ، هانت عليه المصائب واطمأنت نفسه لما قضاه الله تعالى، وكان عند الشدائد صبوراً، وعند المسرات شكوراً.
وقوله سبحانه في ختام الآية الكريمة: معناه أنه عز وجل لا يحب أحداً من شأنه أن يختال بما أتاه الله سبحانه من نعم من دون أن يشكر خالقه ورازقه وصاحب الفضل عليه، فهذا الذي يتفاخر ويتباهى على الناس بما عنده من أموال وأولاد لا يحبه الله ولا ينعم عليه بنعمة الرضا النفسي، فالله يحب من عباده من كان متواضعاً حليماً شاكراً لخالقه عز وجل.
سلاح القناعة
وعن قيام بعض الشباب بالانتحار نتيجة تعرضهم لأزمات مادية يقول الشيخ الجندي: هذا قنوط ويأس لا يليق بمسلم، ولو تسلح هؤلاء بالصبر والرضا والقناعة لما أقدموا على ذلك.
ويضيف: من أعظم الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة التي يجب أن يتحلى بها المسلم خُلق «القناعة والرضا»، فواجب المسلم أن يرضى بما قسمه الله له، ولو كان قليلاً، ولا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «قد أفلح من أسلم ورُزِق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه».. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والمثل الأعلى في القناعة والرضا، فقد عاش حياته الشريفة راضياً قانعاً بما رزقه الله، لا يسأل أحداً شيئاً، ولا يتطلع إلى ما عند غيره.
هذه القناعة تحمي الإنسان من مصائب كثيرة مما نراه ونسمع ونقرأ عنه الآن، فالذي لا يقنع قد يقتل غيره من أجل الحصول على ماله أو سيارته ويجلب لنفسه القتل قصاصاً أو السجن المؤبد، والذي لا يقنع قد يسرق أو يختلس ويدخل السجن، والذي لا يقنع قد يزين له الشيطان قتل نفسه ليلقى الله وهو على غير دين الإسلام.. فالذي لا يقنع هو خاسر في كل الأحوال.
ظلم للنفس
ويتحدث الفقيه الأزهري د. سعدالدين هلالي عن موقف الشرع من المسلم الذي يستسلم لليأس والإحباط ويبادر بقتل نفسه بالانتحار نتيجة ظروف اجتماعية أو اقتصادية ألمَّت به فيقول: الانتحار عدوان صارخ على حياة الإنسان، والإنسان لا يملك روحه، والخالق عز وجل يجرم العدوان على النفس البشرية، سواء أكان من إنسان على إنسان، أم من الإنسان على روحه.
والانتحار لا يجوز أن يكون وسيلة للهروب من مشكلات الحياة وأزماتها، ولا يليق بالمسلم أن يفعل ذلك، كما لا يجوز أن ينتحر شخص رفضاً لظلم وقع عليه، لأن الانتحار ظلم للنفس ولا يجوز دفع الظلم بظلم أقبح منه. كما أن الانتحار هزيمة أمام النفس ولا يتصور أن يكون المهزوم بطلاً.. وأيضاً فإن الانتحار فرار من المواجهة ولا يصح تكريم الفارين بصفة الشهادة.
إن مواجهة مشكلات الحياة تحتاج إلى إنسان قوي يواجه قدره، لا أن يفر منه. وإذا كانت مصاعب الحياة أقوى من طاقة الإنسان فعليه أن يتحلى بالصبر والرضا بقضاء الله وقدره، وإذا ما وقع على الإنسان ظلم فله أن يواجه من ظلموه بالأصول المتبعة والقوانين المنظمة حتى لا يتحول الدفاع عن الحق إلى عدوان. وإذا فقد الإنسان المظلوم حياته وهو يدافع عن نفسه أو حقه فهو من الشهداء، فقد جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله. أرأيت إن جاءني رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: «لا تعطه مالك». قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قاتله». قال: أرأيت إن قتلني؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فأنت شهيد». قال: أرأيت إن قتلته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هو في النار».. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد».
اختبار دائم
وعن وسائل مقاومة المسلم لمشكلاته النفسية وأزماته الحياتية يقول د. هلالي: يجب على المسلم أن يتسلح بعقيدة القضاء والقدر التي تحميه من كل ما يواجهه من مشكلات وأزمات، ولا بد أن يعمل الإنسان ويبذل جهده ويسعى على رزقه وتحصيل علومه ويترك بعد ذلك النتائج على الله.
وعلى المسلم أن يوقن بأن الهمَّ والحزن والمصيبة من عوارض الحياة التي لا تنفك عن الإنسان من أجل الابتلاء والاختبار الذي يميز الله به الخبيث من الطيب. ومن يصبر على آلامه ويواجه مصاعب الحياة بالعمل والكفاح المخلص متسلحاً بالإيمان بأن كل ما يحدث له هو من قدر الله، يقدر الله له الخير، فالمسلم دائماً في اختبار، يقول الحق سبحانه: «ألم* أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين». ويقول عز وجل: «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون». ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلم من نَصَب ولا وَصَب ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه». وإذا كان الصبر على الهمّ والحزن والمصيبة يقتضي الرضا بالقضاء وعدم الجزع من القدر، فإن هذا لا يمنع من وجوب الاستعانة بالله والأخذ بالأسباب حتى يكون الصبر جميلاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب اللجوء إلى الله، والاعتصام به سبحانه ليدفع عنه الهمّ والحزن. ويعينه على الصبر في المصيبة. فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات». والعجز الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه: هو عدم القدرة على فعل الواجبات.. أما الكسل: فهو التثاقل والفتور والتواني عن الواجبات.. وأما الجبن: فهو ضعف القلب أو الخوف مما سوى الله تعالى، وأما الهرم: فهو أقصى الكبر من الشيخوخة المقعدة التي لا علاج لها. وأما فتنة المحيا: فهي كل ما يعرض للإنسان في مدة حياته من الركون إلى الدنيا وشهواتها وجهالاتها. وأما فتنة الممات: فهي ما يصرف الإنسان عن ربه في نهاية الأجل في الدنيا. والعياذ بالله تعالى.
«جَهْدُ البلاء ودَرْكُ الشقاء»
ويضيف: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء. ودرك الشقاء. وسوء القضاء. وشماتة الأعداء.. ومعنى جهد البلاء: حالة الذروة من الفتنة التي قد يتمنى فيها الموت. وقال بعض العلماء: جهد البلاء قلة المال وكثرة العيال.. وأما درك الشقاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه: فهو بذل الجهد والطاقة ليس لتحصيل خير ومنفعة وإنما لتحصيل شر ومعصية. وأما سوء القضاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه فهو ما يسوء الإنسان ويوقعه في المكروه. ولفظ السوء ليس صفة للقضاء. فكل قضاء الله خير. وإنما هو صفة للإنسان الذي نزل به القضاء. فإن كنت راضياً بالقضاء فهو خير القضاء لك. وإن كنت ساخطاً على القضاء فهو سوء القضاء لك. وبهذا يمكنك أن تجعل كل ما ينزل بك مكروهاً أو غير مكروه. وذلك بالرضا والصبر. وصدق الله حيث يقول: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب». لذلك ننصح كل مسلم يعاني الكرب والهم والقلق والتوتر بأن يتسلح بالإيمان، وأن يلجأ إلى خالقه، يؤدي ما عليه من عبادات وواجبات دينية واجتماعية وإنسانية، وسوف يفرِّج الله همَّه ويفك كربه ويرزقه قلباً مطمئناً راضياً بكل ما قدره الله له.