«الرأس التركي» يعود إلى الحلبة الأوروبية

04:18 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

أخذت الديون اليونانية الاتحاد الأوروبي إلى أزمة غير مسبوقة فكان عليه إما التخلي عن أثينا أو الخضوع لمطالبها. في الحالة الأولى كان سيسجل سابقة خطيرة تجعل مصيره مختلفاً عن ذي قبل، وفي الحالة الثانية كان يمكن أن يغري آخرين بالسير على الخطى اليونانية وبالتالي يضعف ويفقد جاذبيته. طرحت أسئلة عديدة حول مصير الاتحاد وحول قدرته على مواجهة مشكلتين أو ثلاث من الطبيعة نفسها في وقت واحد، وانتشرت رهانات اكسترا أوروبية سواء من طرف كارهي الاتحاد والمتضررين منه أو أولئك الذين راهنوا عليه جزئياً شأن بريطانيا.
ما إن انتهى من ضبط أزمة الديون اليونانية حتى فاجأت الاتحاد الأوروبي أزمة اللاجئين المتدفقين من الشرق الأوسط وإفريقيا فبدا مرة أخرى مرتبكاً وعاجزاً عن إيجاد الحلول المناسبة لمشكلة تكبر يومياً ولا يبدو أن حلولها ميسرة. لكن مرة أخرى أيضاً استطاع الأوروبيون ضبط إطار المشكلة في قمتهم الأخيرة في بروكسل ليتضح ثانية أن الاتحاد رغم ضعفه وتشتته وتساهله الظاهر يخفي باطناً صلباً ووسائل فعالة في معالجة مشاكل عصية على الحل.
إن التسوية التي تمت حول مشكلة الديون اليونانية بين حكومة تسيبراس والثنائي الفرنسي -الألماني وما تلاها من تطورات انتخابية في اليونان لصالح التسوية يمكن أن تعد انتصاراً للاتحاد الأوروبي وهي تعكس قدرته على حل مشاكل الاندماج المستعصية رغم أن الحل لا ينطوي على ضمانات جديدة بالنسبة لمستقبل الإدارة الاقتصادية للمشكلة اليونانية، وبالتالي لا بد من الانتظار لبعض الوقت لمعرفة ما إذا كانت هذه التسوية دليلاً على المزيد من الصلابة والقوة والاندماج في الاتحاد الأوروبي أو دليلاً على فيضان بعض المشكلات عن قدرة الاتحاد ووسائله في التصدي لأزمات دوله.
ألقت الأزمة اليونانية الضوء على حدود الاتحاد الأوروبي شرق الأوسطية باعتبار أن اليونان دولة أساسية في موقعها والأقرب إلى الشرق الأوسط وأيضاً على العلاقات داخل الحلف الأطلسي وبين الحلف والاتحاد الأوروبي بسبب الصراع التاريخي بين اليونان وتركيا حول قبرص والتوتر الحدودي بين البلدين والنزاع حول مصادر الطاقة في منطقة التوتر.
لقد بدت تركيا في الأزمة اليونانية كما في قضية اللاجئين لاعباً من الصعب تجاوزه، إذ تجنبت في الحالتين اتخاذ مواقف «شمشونية» مؤذية للاتحاد وإن كانت ضاغطة في حال اللاجئين من أجل تحقيق مصالح الأتراك. وفي الحالتين يبدو أن أنقرة سجلت نقاطاً مهمة في أزمة الديون اليونانية إذ اعتمر أردوغان خوذة الإطفائي فلم يرفع الصوت حول الخلافات الحدودية بين البلدين ولم يبتز المعنيين في أثينا وقبرص وبروكسل بل بادر إلى تقديم خدماته إلى اليونانيين عبر زيارة تاريخية إلى أثينا رافقه فيها عشرة وزراء و400 رجل أعمال عرض خلالها على اليونانيين مساهمة تركية في حل أزمة ديونهم.
وعلى الرغم من أن الزيارة لم تفض إلى تقدم يذكر في علاقات البلدين إلا أنها طرحت تركيا في الأوساط الأوروبية كقوة إقليمية مسؤولة لا تصب الزيت على النار في أزمة خطيرة كالأزمة اليونانية. وذلك بخلاف قضية اللاجئين التي استخدمها أردوغان ورقة ضغط ظاهرة على الاتحاد الأوروبي، علما بأن موجة اللاجئين إلى أوروبا وافدة بقسمها الأعظم من تركيا وربما بتسهيل وبمعرفة السلطات التركية. والراجح أن الزعيم التركي كان يريد من ذلك القول لجيرانه الأوروبيين إنه لا يستطيع أن يتحمل طويلاً عبء اللاجئين السوريين والأكراد والعراقيين وإن نتائج الحرب في سوريا والعراق جديرة بالتقاسم بين الطرفين الشريكين في الأطلسي ولعله بلغ ما يريد.
إن تصريح أنجيلا ميركل الأخير القاضي باستئناف المفاوضات المجمدة حول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي هو من أثر قضية اللاجئين التي طغت نهاية الأسبوع الماضي في أعمال قمة أوروبية بلقانية قررت إنشاء مئة ألف مركز استقبال في اليونان و البلقان.. واستندت الخطة الجديدة إلى حسن التعاون مع تركيا لمواجهة هذه الموجة من تنقل السكان التي لا مثيل لها في تاريخ اللجوء إلى القارة العجوز.
واللافت في قضية اللاجئين امتناع العواصم الأوروبية عن توجيه أصابع الاتهام إلى الحكومة التركية علناً على الأقل وبالتالي تجنب التصعيد في قضية معقدة تتحمل أوروبا مسؤولية أساسية فيها ليس فقط عبر شراكتها مع تركيا في ملفات المنطقة وإنما أيضاً بسبب الدور الأوروبي المنفرد في الحرب الليبية والذي أدى إلى تفريغ هذا البلد من سلطاته وتحويله إلى دولة فاشلة تستقبل اللاجئين وترسلهم إلى أوروبا بل إلى حيث يريدون.
يفضي ما سبق إلى خلاصة مضمونها أن أوروبا التي تبدو مترهلة وعاجزة عن ضبط أزماتها لم تتراجع يوماً ولم تهزم في مواجهة أي منها وبخاصة قضية الدستور الموحد وأزمة الأسواق المالية واحتمال خروج بريطانيا من الاتحاد وأزمة الديون اليونانية وصولاً إلى قضية اللاجئين.
بالمقابل تبدو تركيا التي نصحت بأن تطوي حلمها الأوروبي عصية على التهميش على حدود القارة الثرية، فمن جهة تتصرف كقوة إقليمية كما رأينا في أزمة الديون اليونانية ومن جهة أخرى تبتز الأوروبيين بقضية اللاجئين للقول إنها لاعب مؤثر عندما يقتضي الأمر وطرف لا يمكن تهميشه في معركة مشتركة تستدعي تقاسم النتائج كما هي الحال في قضية اللاجئين.
في فرنسا كان الناس في القرن التاسع عشر يمارسون لعبه اسمها «الرأس التركي» وتقضي بتوجيه لكمات لمجسم رأس مشورب يحمل ملامح تركية حتى يتفوق لاعب على آخر في عدد وقوة اللكمات التي تتجمع كلها على الرأس التركي المسكين.. كان ذلك في أواخر العهد العثماني المتهالك.. أما اليوم ف «الرأس التركي» يراهن على إدخال 80 مليون مسلم إلى قارة متخمة الثراء وقد لا يكون بعيداً عن الفوز برهانه، وإن فعل قد يغير وجه أوروبا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"